لكلِّ المواسم...!

سلمى اللواتيَّة

تَمْتَلئ الحياة بمواسم متنوِّعة تكسر الرَّتابة وتُحدثُ نوعًا من التغيير لتضفي بهجةً على حياة المرء؛ فالفصول الأربعة -وإن كانت شحيحة في مظاهرها في بلادنا- إلا أنها مصدر إمتاع حقيقي لمن يُلاحظها في تعاقبها السنوي بما تحمله من تفتُّح أزهار وتنوُّع فاكهة ومواعيد مطر نترقبها باللهفة والشوق، والأعياد مواسم فرح وتذكار كما أن مواسم العبادة والاعتبار لها نكهتها التي تُرجع الإنسان إلى أصل وجوده وحقيقة فهمه للحياة، ثم إنَّ للسفر مواسمه الممتلئة بالإثارة والاكتشاف، وللظروف التي تُجبرنا على البقاء كمواعيد الامتحانات أيضا مواسم تعلمنا الصبر والجد والحلم والتحلم، ولولا هذا التغيير الطبيعي المستمر في أصل الحياة لكساها الكثير من سواد الملل والنمطية القاتلة؛ فسُبحان الله الذي جعل الحياة أطوارا وألوانا ومباهج شتى!

ومع كلِّ هذا الجمال والأنس الذي تُضفيه المواسم، إلا أنها تكون في غاية السُّوء حين تتعلق بالقيم الإنسانية الأصيلة؛ فالرحمة لا تصلح أن تكون موسمية والبر والإحسان لا يقع في مَوْسم دون آخر، ولا يجدر ذلك بالحب والخير والتعاون والإيثار والعطاء؛ لأنَّ الفضائل هي ركيزة الحياة الإنسانية، وليس أدل على ذلك من تشدُّق الجميع بها، حتى الخونة والمجرمين يدَّعون أنهم أرادوا الخير لأنفسهم فأخطأوا الطريق! ومن الفضائل السَّامقة التي لا تتناسب مع مبدأ الموسمية: "فضيلة القراءة"، هذه الدعوة الإلهية التي وَجَّهنا إليها ديننا الحنيف، وسيكون من فضول الكلام لو قلت إنها السببَ الأول لرُقي الأمم وبناء الحضارات، وهو جانبٌ لن أُسهب فيه الحديث؛ إذ إنَّ الذي دفعني إلى التفكير في هذا الموضوع بالذات هو البحث عن مهرجانات القراءة التي كانت متلاحقة في السنتين الفائتتين لتخبو تماما -إلا ما نَدُر- في هذا العام الذي يُشارف على المغادرة، والذي تخللته إعلانات خجولة حول كيف تقرأ لطفلك قصة؟ أو كيف تختار كتابًا هذا الشهر؟ بل وحتى المكتبات التي كان لها صدًى في وسائل الإعلام المختلفة خبا! ولم يعلُ نداء القراءة إلا في فترة معرض الكتاب حين جذب حب المشاركة البعض ليعلن لنا في مواقع التواصل الاجتماعي عمَّا اقتناه من منوَّعات معرفية، ولستُ هنا بصَدَد البحث عن الأسباب والنتائج، بقدر ما أتساءل عن المهمة الحقيقية للمكتبات الموجودة في العاصمة مسقط على الأقل؟ وما الدور الحقيقي الذي تقوم به لبعث روح القراءة في النفوس؟ وما المعوقات التي تواجهها؟ وما نوع الدعم المعرفي والمادي واللوجستي الذي تحتاجه كي تنهض بالناس من سُبات الجهل المعرفي والثقافي؟ كذلك أتساءل عن الدور المجتمعي االذي تقوم به مؤسساتنا الثقافية؟ وكيف تتغلَّب على تحدِّي العزوف عن حضور العامة إلى أنشطتها القرائية والفكرية والثقافية؟ وما الفئات العمرية التي تتبنى خططها السنوية التوجه لها؟ حتمًا لستُ هُنا في معرض توجيه اللائمة أو الانتقاد بقدر ما أنا أبحث عن الإجابة لظاهرة موسمية القراءة التي يجب أن تكون كالماء والغذاء بعد مرور ما يُقارب النصف قرن على النهضة العمانية التي كان العلم والتعليم من أولوياتها الأولى وأساسيات تشييدها. أذكرُ أنَّني حين كُنت في المرحلة الابتدائية في ثمانينيات القرن الماضي كانت حصة القراءة جزءا لا يتجزأ من منهاج اللغة العربية، والذي أتمنى لو يعود! وكم يبهجني أن أرى ذلك اليوم في بعض المدارس الخاصة، كمدرسة السلطان قابوس الخاصة، وشخصيًّا أعتبر هذا الذكر شكرا وتشجيعا للقائمين على سياسات المدرسة للاستمرار على ذات النهج. وعودا على موضوع القراءة، أقول إنَّ الموضوع بحاجة إلى برنامج وطني تشترك فيه الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لتحويل القراءة من حالة موسمية إلى ظاهرة إيجابية ترفع مستوى الوعي العام والثقافة في المجتمع، والوسائل لتحقيق ذلك كثيرة لو كانت لدينا جهة منظمة لهذا الشأن ولتكن إحدى المؤسسات الثقافية القائمة ولينضوي تحتها أعضاء من مختلف مكونات المجتمع شرط الإبداع، وأنْ لا تلحقها القوانين الكثيرة والإجراءات الطويلة التي من شأنها التأجيل والترحيل، ولا شك لديَّ أننا سنرى حينها في كل متجرٍ كتاب، وعند كل مقهًى أرفف ثقافة منوعة، ولا يفوتني هنا أن أتحدث عن متجر لبيع مصابيح إنارة مميزة في القاهرة، والذي من المؤسف أنني لا أتذكر اسمه، ولكن مربط الفرس هنا في الفكرة؛ فهذا المتجر يقصده الناس لتميز تصميماته، وهو يقدم مشروبا مجانيا، إضافة إلى خصم محدد لمن يقرأ لمدة محددة في ركن جلسته المميزة! إنه الإحساس الداخلي بالمسؤولية المجتمعية والتي أدعو إليها. إنَّ هكذا أفكار بسيطة وجذابة من شأنها أن تصنع لنا مجتمع المعرفة الذي ننشد، وبلا شك فمع التقادم تتراكم الخبرة وتزداد الأفكار ويظهر للوجود إبداع أكبر يتناسب ومتطلبات المراحل كل حين، ومما لا شك فيه أن هذه الأفكار سيكون لها أدوار وطنية أخرى تتناسب وخطط التنمية في البلاد، كما أنها قد تُساهم في دراسات وبحوث منوعة في مجال ما أو مجالات عدة؛ فقد تكون مؤشرا على نوعية المعرفة والثقافة السائدة في مناطق معينة وأسباب ذلك وإيجابياته وسلبياته، وتمنحنا بالتالي الفرصة لسد الثغرة والنقص المعرفي، كما أنها ستساهم في ملء فراغ المكتبة العمانية في المجالات التي يطلبها المواطنون في المناطق المختلفة ولا يجدونها، مما سيثريها لاحقا لو وضعت لها الخطط الصحيحة. لعل الأمر يبدو تحديا كبيرا في بدايته، ولكنه سيتحول إلى ثقافة عامة فيما بعد لو أُحسن التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وإني على يقينٍ من أنَّ أجود الثمار التي سنقطفها في المستقبل هي أجيالنا التي ستألف وجود الكتاب في كل تفاصيل حياتها، ولا أظن أنَّ هدفا يبلغ من السمو قدرَ أنْ نَرَى في المستقبل كتابا في يد كل طفل عُماني يأنس به كخير جليس في كل المواسم.

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك