نزوى الشهباء..

عائشة البلوشية

دأبت على النظر إلى بلادي الغالية عمان نظرة متجردة من الجمود، فتسامت نظرتي لها من مجرد مساحات شاسعة من الجبال والسهول والوديان، فصرت دائمًا وأبدًا أراها قلباً ضخماً نابضًا بالحب، ونحن خلايا الدم التي تسري عبر شرايين من الطرق الوعرة سابقاً، والمعبدة والممهدة حاليًا، والمدن الرئيسية ما هي إلا صمامات في هذا القلب..

رغم زياراتي السابقة لمحافظة مسقط، إلا أنّ صغر سني لا يُسعفني في استرجاع شيء من اللقطات عن مدينة نزوى العريقة، ولكنني أتذكر رحلة التعلق الأول بقلعة نزوى التأريخية، حيث تجاوز عمري الخامسة بقليل، وسيارة اللاندروفر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي تجلد ظهور الأحصنة القليلة فيها، في طريق ترابي ممهد من ولاية عبري إلى مدينة مسقط، وقد كسا التراب المتطاير ملابسنا ووجوهنا، وعمي الغالي يتحدث مع سائق السيارة حول هندسة القلعة التي شيدها الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي في عام 1649م، وقد استغرق بناؤها اثني عشر عامًا، وكان السائق يخبره عن مساقط الزيت المغلي والدبس على كل من يتجرأ على الدخول إلى القلعة أو التسلل إليها بهدف التخريب، وعن التحصينات الدفاعية المهيبة التي صممت في هذه القلعة، لدرجة أنّها تحتوي على اثني عشر بئراً في داخلها، فكنت أتتبع القلعة بناظري حتى اختفت في الأفق ونحن نستكمل الطريق إلى مسكد (مسقط)، وأتعجب من ارتفاعها وكيف استطاعوا رفع ذلك البناء بتلك المتانة العظيمة التي تقاوم دك المدافع حينها، وما هي الأدوات التي استخدموها، وكم كنت أطير فرحًا عندما نتوقف عند فلج دارس، فهو أكثر غزارة من فلج العراقي، وبه الكثير من "سمك الصد"...

وفي هذا المقال لست بصدد الحديث عن الحروب والمعارك التي كان لنزوى دور رئيسي في انتصاراتها، بل أردت التحدث عن "تخت العرب" أو "بيضة الإسلام"، وهي من أشهر الأسماء التي عرفت بها مدينة نزوى، وبيضة هنا بمعنى ساحة، فهي ساحة الإسلام وذلك لكثرة العلماء والعلم فيها، ولا يمكن أن تتم دراسة التأريخ الإسلامي دون المرور على نزوى، ودورها الهام والمحوري في العلوم الإسلامية، منذ القرون الأولى للهجرة النبوية الشريفة، وانتشار المساجد في واحات نخيلها، حيث يعد مسجد الشواذنة من أشهرها وأقدمها، فقد بني في العام السابع من القرن الأول الهجري، ومن المعلوم لدى الجميع أنّ مساجد مدينة نزوى قد خرجت أفواجا من العلماء والأدباء الذين نشروا العلم والأدب والفقه والدين داخل عمان وخارجها، وإضافة إلى هذا المسجد هنالك مساجد أخرى منها سعال والجناة والشرجة والمزارعة، أما جامع نزوى فقد بني في القرن الثاني الهجري، واليوم تحتضن ولاية نزوى العريقة جامع السلطان قابوس، ذلك المعلم الديني الثقافي، والتحفة المعمارية الرائعة، ونزوى مدينة تنضح بالجمال والتراث والثقافة في كل ركن من أركانها، وما أجمل ذلك السوق الممتد تحت قلعة نزوى، الذي لازال يحتفظ بنكهة الماضي الجميل وعبق الأيام الماضية، وحصن نزوى البديع المحاط ببساتين النخيل الغناء...

ونزوى مثلما ذكر ياقوت الحموي جاءت من النزو وهو الوثب، ووصف أهلها بأنّهم يلبسون ثياباً غالية الثمن ويتخذون إزارا من نفس الثياب؛ أما ابن بطوطة فقد أسهب في ذكر بساتينها ونخيلها؛ ومثلما يعصر الورد العُماني في قمة الجبل الأخضر ليخرج لنا معبئا في زجاجات نستخدمها في شتى المآرب، أهمها نكهة الجلوى العمانية الخاصة، هناك أيضاً غذاء للعقول وعصر للفكر، ومثلما حظيت مدينة نزوى بالمساجد ودور العلم عبر التأريخ، فتخرج العلماء العظام من دور هذه المدينة العريقة، فقد ارتبطت مدينة نزوى بالمدينة المنورة بعد أن أسلم أهل عمان طوعًا، ولنا في أبي الشعثاء جابر بن زيد خير مثال، فهو من أهم علماء الإسلام حيث أثنى عليه حبر الأمة العباس بن عبد المطلب بأنّه كان خير معلم، وأنه استقى علمه منه، ولا أريد أن تنسيني محدودية السطور ذكر أحدهم، ولكن هذه المدينة كان لها الإسهام الكبير في رفد عُمان بالعلم والعلماء...

لقد سطرت عجلة النهضة الحديثة آثارها على الجبل والسهل والوادي، لنرى المعهد العالي للقضاء، وجامعة نزوى الخاصة، والكليات ما بين تقنية وتطبيقية، فينشرح الصدر لتكاتف القطاعين الخاص والحكومي معًا، في صناعة الأجيال الواعية والمؤهلة التأهيل الأمثل لقادم الأيام، ولم يأت اختيار هذه المدينة عاصمة للثقافة الإسلامية مصادفة، فهي بالفعل عاصمة للثقافة عبر التأريخ العماني، حيث اعتبرت منظمة الثقافة والتربية والعلوم الإسيسكو نزوى من أهم مدن العالم لدراسة العلماء والثقافة والعلوم، ومركزًا مهمًا للتعليم والبحث العلمي...

هناك الآلاف من المؤلفات عن هذه المدينة الضاربة في عمق التأريخ وعن علمائها، وعلومها ومعالمها، ومقال واحد عن هذه المدينة ليس بكافٍ، وليست قلعة نزوى هي الشهباء وحدها، بل إنّ هذه المدينة العريقة هي نبراس من العلوم في حد ذاتها، لذلك وفي هذه الأيام المجيدة أردت أن أحيي بقعة حبيبة في بلادي الغالية وأقول : "دمت في إباء يا نزوى الشهباء"...

توقيع:

قال الشاعر الكبير أبو مسلم -رحمه الله:
"وافرق بها البيد حتى يستبين لها.. فرق على بيضة الإسلام عنوان
فإن تيامنت الحوراء شاخصة.. لها مع السحب أكناف وأحضان
فحط رحلك إنها بلغت.. نزوى وطافت بها للمجد أركان".

تعليق عبر الفيس بوك