"الأكراد من العشيرة إلى الدولة"

أحمد الجلنداني

يُحاول الباحث والكاتب اللبناني مُوْسَى مخول في كتابة "الأكراد من العشيرة إلى الدولة" -الصادر في طبعته الأولى عام 2013م، عن بيسان للنشر والتوزيع والإعلام ببيروت- أن يُقدِّم بانوراما تاريخية وافية عن الأكراد والمسألة الكردية؛ حَرِص فيها على تبيان الجوانب الحضارية للكرد، وأثرهم في الحضارة الإسلامية، خصوصا ما أغفله المؤرخون بقصد أو بدونه.

ويتكشَّف لمتصفِّح الكتاب منذ صفحاته الأولى زَخَم هذه الدراسة البحثية بالمراجع العلمية التي تُؤكِّد ما أشار إليه المؤلف في مُقدِّمة كتابه من حرصه في بحثه عن المسألة الكردية أن يُخرجها وفق منهج علمي أكاديمي يستند إلى المراجع الموثوقة والوثائق المحققة؛ حيث تضمُّ قائمة المراجع ما يزيد على مائتي مرجع عربي فضلا عن المراجع الفرنسية.

كما يبدو كذلك كمُّ الجهد المبذول في هذا البحث التاريخي الذي حاول الباحث فيه -كما يقول- أن يكون واقعيا وأن يبقي المسألة الكردية في إطارها التاريخي والطبيعي المستند إلى المراجع والوثائق الموثوقة بعيدا عن غبار الخيال والسرد القصصي وحلم الشعر وفورة العاطفة.. مؤكدا أنَّ التاريخ لا يعدو أن يكون خادما للحقيقة فقط.

قسَّم الباحث بحثه إلى مقدمة وسبعة عشر فصلا، وقائمة للمراجع العربية والفرنسية؛ حيث تناول أصلَ الكرد والواقع الجغرافي لكردستان، وهي تعني في اللغة الكردية بلادَ الكرد التي ليستْ دولة مُستقلة لها حدود سياسية محددة، وإنما كناية عن تعبير جغرافي شامل يعيش ضمنه شعوب أكثرها تنتمي إلى العرق الكردي أو فيما يعرف في الأدبيات الكردية بالوطن الكردي.. والتجمعات السكانية للأكراد في الدول المجاورة التي تجمعها نفس الطبيعة الجغرافية الجبلية، موضِّحا أنَّ الكرد يسكنون تركيا وإيران والعراق وسوريا وروسيا؛ حيث بحث في كتابه هذا التاريخ السياسي للأكراد في هذه الدول باستثناء روسيا.

وفي عرض سريع، تطرَّق المؤلف إلى اللغة الكردية ومكونات النظام الاجتماعي الكردي، لاسيما العشيرة والنظام الاقطاعي ومظاهر التحول الاجتماعي التي مرَّ بها الأكراد والآثار التي خلفها نظام الإقطاع اجتماعيا واقتصاديا، إلى أن أخذ بالتلاشي في القرن التاسع عشر، وصولا إلى علاقة الكرد بالدولة الإسلامية التي اعتنقوا دينها وإسهامهم الحضاري فيها، ودورهم المحوري في الدفاع عن ثغور الإسلام خلال الحروب الصليبية، مُستشهدا بالقائد الكردي صلاح الدين الأيوبي وإسهاماته التي يشهد لها التاريخ، إلى جانب الحياة الثقافية للأكراد.

بعد ذلك، يُفرد المؤلف المساحة في بحثه للحديث عن القضية الكردية أو ما يُتعارف عليه بفكرة الأمة الكردية أو الوطن الكردي التي برزت على السطح في العصور الحديثة بعد أن ساعدت بعض العوامل على تغذيتها وازدهارها.

حاول الباحث تسليط الضوء على الواقع الكردي والتحركات الحزبية في كلٍّ من العراق وتركيا وإيران وسوريا والمحاولات الكردية المجتمعة في النزوع نحو الاستقلال الذاتي والوحدة السياسية بعد تنامي الإحساس الكردي بهضم حقوق الأكراد في هذه الدول؛ وذلك إمَّا بالدبلوماسية أحيانا -كما في العراق وإيران وسوريا- أو بالقمع ومحاولة تذويب العرق الكردي وتماهيه ضمن إطار الدولة الأم التي يعيش عليها الأكراد، كما هي الحال في تركيا، وأحيانا إيران والعراق أيضا، وصولا إلى المفاوضات والاتفاقيات التي شهدها النضال الكردي نحو الاستقلال مع هذه الدول كمعاهدة "سيفر" المحورية الشهيرة أو تلك الثورات التي كانت تقوم بها الزعامات الكردية كالملا مصطفى البرزاني، الذي حقَّق انتصارات كبيرة للأكراد؛ إما عسكرية عن طريق حرب العصابات أو عن طريق التفاوض مع الحكومات العراقية المتعاقبة كما في اتفاقية 1970 التي يمكن اعتبارها جميعها مكاسب واقعية ومعنوية كبيرة للحلم الكردي بالاستقلال والحكم الذاتي أفضت بدورها إلى ظهور إقليم كردستان العراق بشكله الحالي؛ حيث واصل ابنه مسعود البرزاني المسير لتحقيق باقي الأحلام الكردية.

كما استعرضَ الباحث الصراعات بين الأكراد أنفسهم التي أثرت بدورها على مساعيهم لتحقيق حقوق الأمة الكردية كما يرونها، وكيف تم استغلال ذلك إما لشق عصا الأكراد أنفسهم أو كورقة تستغلها حكومات الدول التي يعيش الأكراد على أراضيها للضغط بها على بعض هذه الحكومات حتى لا تستجيب فيها الحكومات لمطالبهم، ثم ضمان عدم تكرار ذات المطالب مع الأكراد على أرضها، أو لأغراض سياسية بحتة تخدم هذه الدول وتضعف من قوى الدول الأخرى. هذا إلى جانب الدور الأجنبي الخارجي الذي أحسن استخدام واستغلال الورقة الكردية لتحقيق مصالحه الخاصة للضغط على حكومات الدول التي يشكل الكرد جزءا من نسيجها الاجتماعي لتحقيق أهداف ما دون أي انتصار في الحقيقة للقضية الكردية التي دائما ما تبدي زعامتها صدق نواياها للغرب في الحين الذي يخذلها فيه الأخير -كما يرى الزعماء الأكراد- وما خذلان المجتمع الدولي لجمهورية مهاباد الكردية في إيران إلا أكبر الأمثلة على ذلك.

ويلخِّص الباحثُ في الفصل الأخير واقع القضية الكردية في تركيا وإيران والعراق؛ حيث يخلص إلى أنَّ هذه القضية التي تعدها هذه الدول نزاعا داخليا، كذلك فهي مصدر خلاف وتحريك للصراع فيما بينها؛ إذ يجمعها قاسم مشترك وهو عدم قيام دولة كردية منفصلة في دولة واحدة أو متحدة في الدول الثلاث؛ لذا تصبح القضية بؤرة ساخنة ومصدر قلق دائم للكرد وحكومات هذه الدول.

كما خلص الباحث إلى أنه على القيادات الكردية أن تُدرك أنَّ مصالح الكرد وطموحاتهم مرتبطة بمصالح الدول التي يعيشون عليها، وعدم الركون إلى الاعتماد على الدور الخارجي ووعوده البراقة القائمة على المصالح، والتي يتكشف زيفها مع كل تطور تشهده القضية الكردية في هذه الدول.

a_aljalandani@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك