صحار الخير

عائشة البلوشية

ارتبط اسم صحار في طفولتنا بقصص البيع والشراء والتبادل التجاري التي كنا نسمعها من رواتها، وتقول قصة اليوم إنّ رجلا من صحار حمل بضاعته من سمك "المالح"، وهي طريقة لحفظ بعض أنواع الأسماك لمدة طويلة عن طريق رشه ببعض البهارات العطرية وملح البحر، حمل الرجل الحمولة على دابته، واتجه صوب سوق عبري، قاصدًا بيع السمك، عبر "وادي حيبي"، وفي المساء وعندما شارف قرص الشمس على المغيب، بحث الرجل عن سمرة على ضفة الوادي وانزل الأحمال عن الدابة وبدأ يعد مرقده، ويوقد النار ليعد القهوة ويأكل بعضا من التمر، ليصلي ثم يخلد إلى النوم، وبعد أن جن الليل والرجل مستغرق في نوم عميق، جاء أحد الجان وقد شدته رائحة السمك المالح، فأخذ قطعة من السمك ووضعها على الجمر المضطرم، ففاحت في الأجواء رائحة السمك المشوي، وقال الجني في خلده، ما ألذ التمر مع السمك المشوي، وعندما توجه إلى الخصف وجد أن الرجل قد غرس المجز/ الداس في التمر، وﻷن طبيعة الجن تنفر من الحديد، لم يستطع الاقتراب، لذا قال بأن الإنسي غارق في النوم، سأوقظه وأطلب منه أن يقلع التمر ونأكل معا، وبالفعل أيقظه وقال له: هيا قم للعشاء، واجلب التمر ريثما أرفع السمك من على الجمر، وبالفعل استيقظ الرجل متثائبا، وأنفه ممتلىء بتلك الروائح اللذيذة، فأحضر التمر وما إن جلس ومدّ يده حتى قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فطار الجني وذهب جهده في تجهيز الوجبة أدراج الرياح واستمتع الصحاري الذي لم ينس ذكر الله بوجبة شهية..

وأنا أتصفح جرائد صباح يوم الخميس، الثاني عشر من نوفمبر، من عام 2015م، شدني العنوان التالي: (ميناء صحار يستقبل أكبر سفينة في العالم لنقل المركبات بسعة 7500 سيارة)، فرفعت رأسي شاردة في الفضاء الذي أمامي، وابتسامة امتنان وحمد وشكر للخالق عز وجل تعلو محياي، وطاف بخلدي جلال ذلك التشريف لهذه الولاية العريقة، وثوب من نسج أيادي أبنائها يلف الجسد الطاهر لرسولنا وحبيبنا وشفيعنا يوم الدين، صلى الله عليه وآله وسلم، فأي جلال قد حظيت يا صحار الخير!، والثوبان الصحاريان هما أحد أثواب الكفن المشرف، وتذكرت رسول رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله عمرو بن العاص، إلى عبد وجيفر ابني الجلندى في دعوة ﻷهل عمان إلى الإسلام، وأكاد أقص آثار خف الناقة وهي تلج إلى صحار حاملة تلك الرسالة المباركة، والتي احتفى بها ابنا الجلندى عبد وجيفر، فأكرما وفادة الرسول عمرو بن العاص السهمي، ومرافقه أبو زيد الأنصاري، وأجابا الدعوة بالدخول إلى الإسلام طواعية.

ويأخذني بحر الكلمات إلى المقامة الصحارية، ﻷبي الحارث الشيخ محمد بن علي البرواني، ذلك العمل الأدبي الرائع الذي تزينت به صفحات كتاب المؤنس للصف الثاني عشر، ليقرأ أبناؤنا ويتعلمون عظمة جزء غال ومحوري في بلادنا الحبيبة عمان، من خلال عمل ثري بالسجع والجناس، يعود إلى بدايات القرن الماضي، وأتنقل بينها وبين المقدسي الذي قال عن صحار: "دهليز الصين، وخزانة الشرق والعراق، ومغوثة اليمن"، وبين الاصطخري الذي قال عنها: "ولا تكاد تعرف على بحر فارس، وجميع بلاد الاسلام مدينة أكثر إعمارا ومالا من صحار"...

وعندما نعود لصفحات التأريخ نجد أن هذه الوﻻية الجميلة، كانت تشكل نقطة تحول في الملمات، والأحداث العظام، ولست هنا بصدد الحديث عن دورها الاستراتيجي واللوجستي في الحروب والمعارك، ولكنني أسلط الضوء على مكانتها الكبيرة في التجارة والاقتصاد في مختلف العصور، حيث يسجل التأريخ أن اسم صحار القديم هو مجان ومزون، بحسب النصوص الفارسية والصينية القديمة، والذي يعني جبل النحاس، حيث كان يصدر هذا المعدن المهم من صحار إلى بلاد فارس والرافدين، وتعود العلاقات التجارية لهذه الولاية إلى الألف الثاني قبل الميلاد، كما أن أول دار إسلامية لسك النقود في الجزيرة العربية كانت في عام 81 هجري الموافق عام 700 ميلادي في صحار، في عهد عبدالملك بن مروان، وكانت أول قطعة نحاسية معروفة تعود لعام 141 هجري صدرت باسم والي صحار حينها "روح بن حاتم"، وكانت تحمل اسم صحار...

وها هي صحار اليوم تزدان بمنجزات النهضة الحديثة، التي أعادت نسج الحلة القشيبة التي زينت هذه الولاية عبر العصور، حيث بدأ التنقيب عن النحاس في صحار منذ عام 1973م بهدف تنويع مصادر الدخل القومي، وعندما أنشئت شركة عمان للتعدين في عام 1978م بدأت بالتنقيب في مناجم الأصيل والبيضاء وعرجاء في هذه الولاية، ليتم افتتاح مصنع النحاس في عام 1983م، وبدأت السلطنة في تصديره منذ منتصف ذات العام، وأنا أستلذ صوت عجلة التنمية الرنان وهو يجول عبر هذه الولاية الضاربة في عمق التأريخ، أراها تحظى بميناء صحار، هذا المشروع الحيوي الذي يستقبل أكبر السفن العملاقة، ويصبح رافدًا لكل من المنطقة الصناعية ومصفاة صحار وعمان قاطبة، وتتسابق عجلة التنمية لتنتهي من أهم مشاريع البنية الأساسية، وربط العاصمة السياسية مسقط بصحار الخير، التي أرى ملامح عاصمة اقتصادية قد تشكلت فيها، من خلال أكثر من طريق بري، حيث يشارف "الطريق السريع" على الانتهاء، وكذلك "الطريق البحري" الذي قطع أشواطا نرجو أن تكتمل في القريب العاجل، علاوة على الطريق الرئيسي المستخدم حاليا، والذي نجد الأعمال المختلفة كالصيانة والإضافات قائمة فيه...

الحديث عن هذه الولاية لا يكون في مقال مختصر، فقد دوّن التأريخ المجلدات عنها، ولكنني أردت أن أقول في هذه الأيام الرائعة لجزء حبيب من عمان "دمت في خير يا صحار الخير"...

توقيع: "واقتن من العلم ما يقوم ميلك، وشمر له، واجعل إليه ميلك... المقامة الصحارية".

تعليق عبر الفيس بوك