دوام الحال من المحال

سارة البريكيَّة

يتأرجحُ الإنسان بين حالات الحزن والفرح؛ فيُمسي على فرح، ويأتي عليه زمن يُصبح على حزن؛ فدوام الحال من المحال.. يأتي على الإنسان وقتٌ يكون فيه مُنعَّما، ويأتي عليه وقت يكون معدما؛ فدوام الحال من المحال.. يأتي على الإنسان أن يكون اليوم سليمَ الجسد مُعافى، ويكون ما بين غمضة عين وانتباهتها مسجى على فراش المرضى، ومكبلا بأجهزة الانعاش في غرف العناية المركزة...وغيرها، فدوام الحال من المحال.. يأتي على الإنسان أن يكون اليوم جاهلا وتدور الأيام عليه ليكون غدا أستاذا ومتعلما، يأتي على الإنسان أنْ لا يجد اليوم قوت يومه، وتدور عليه الليالي بأن يكون في قادم الأيام مالكا لقوت مئات البشر وليس لقوته هو، فدوام الحال من المحال.. كلُّ ذلك يحدث ونحن إلى أن تقوم الساعة هكذا حالنا وأحوالنا في تباين واختلاف مستمر، وفي عدم تساوٍ مُخلَّد في الأرض ويوم القيامة أيضا. ويحدث ذلك لحكمة يُريدها المولى عزَّ وجلَّ؛ فلله في خلقه شؤون؛ ففي الحياة الآخرة سنكون أيضا لسنا مُتساويْن، فمن سيكون في الجنان سيكونون في منازل ودرجات مختلفة، فكل منزلة سيكون بها نفر من عباد الله وهي تختلف في مجملها عن كل منزلة. أما النار -أجارنا الله منها- فهي مواضع ودركات، وكل موضع أيضا يختلف عن الآخر. إذن؛ نحن حتى تحت الأرض ويوم العرض على الله لن نكون في مستوى واحد.

وفي هذا السياق، نعلم تمام العلم أنه لا أحد منا يتمنى أن يبتليه الله بأي مرض كان، ونبي الله أيوب وقصته فيما ابتلاه الله، ليست بخافية على كل قارئ ومطلع، وهذا دليل على أن الأنبياء والرسل مبتلون وقصصهم كثيرة، فما بالكم بنحن كعباد لله، وحقيقة أقول إنَّ من يرقد في المستشفيات لمرض ما يصل لأيام وشهور طويلة، فإنه سيسمع وسيرى في مختلف أجنحتها -حيث يرقد المرضى- العجب العجاب، بعكس الذي يأتيها في العيادات أو أقسام الطوارئ للعلاج البسيط ويمكث فيها بعض الوقت فيغادرها؛ فليست زيارة خاطفة لغير أقسام الترقيد بالمستشفيات كفيلة بأن تجعلك على اطلاع بما يدور فيها من مآسٍ وآلام وأوجاع.

عزيزي القارئ، كثيرة هي أعداد الأسرة الموجودة في جميع مستشفيات السلطنة، وكل المستشفيات الحكومية الموجودة في سائر ولايات السلطنة، إضافة إلى المستشفيات الخاصة في بلدنا عُمان، ولك أن تتخيل بأن جميع هذه الأسرَّة ممتلئة عن بكرة أبيها بالمرضى العمانيين وغيرهم، الذين يئنون ويصرخون طوال الليل والنهار، هذا من غير المرضى الذين يتعالجون خارج السلطنة، وكذلك الذين يعانون في بيوتهم.

تخيَّل قارئي هذه الأعداد المهولة من المواطنين وغيرهم وعلى مختلف أعمارهم، يشغلون جميع تلك الأسرَّة في مختلف المستشفيات بالسلطنة، وهم جميعهم مرضى بأمراض مختلفة وغريبة ومتعددة، يا الله.. إنه شيء مفزع إذ المستشفيات بما فيها من مرضى عالم مختلف ومخيف يكاد لا يعلم عنه كثيرون؛ فالذي هو خارج تلك المستشفيات متأكد أنه يجهل ما بها وما يدور فيها من مرضى وأمراض؛ فلقد صدق سيدي ونبينا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال "إنه من بات في سربه آمنا، معافى في جسده وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".

حقيقة أقولها إنَّ الذي يرقد في المستشفيات لأيام مع المرضى؛ حيث هم في أجنحتهم وأسرتهم البيضاء وبين الأنابيب والأجهزة والمعدات الطبية المختلفة، سيدرك تماما أنه لو كانت الصحة تُشترى بالمال لاشتراها الأثرياء والميسورون وأصحاب الأموال والمقتدرون...وغيرهم من الناس، وسيدرك تماما كيف هي مطالب مختلف المرضى من الأطباء المنصبة على أن تُوهب لهم الصحة ولو يكون المقابل كل الأموال والأملاك التي بحوزتهم، وإن كانت توصف لهم في أقاصي بلاد الدنيا لذهبوا إليها... أمر عجيب فعلا.

... إنَّ المرءَ يبدأ حياته يريد أن يكبر بسرعة، وحينما يبلغ الحلم يفكر بعدها بالعمل وجمع المال مُضحيا بصحته وبأشياء كثيرة، وعندما يكبر إلى سن معينة، يفكر مرة أخرى كيف يبقى شابا ويافعا ونضرا، ويحرص مع هذا وذاك على أنْ لا تظهر علامات الشيب وكبر السن عليه؛ فتجده في أحيان كثيرة يدفع أموالا كثيرة من أجل ذلك، وحينما تعتل صحته ينفق أمواله التي جمعها بطرق مختلفة لاستعادتها، إنها معادلة أكثر ما ينبغي تسميتها ووصفها بالعجيبة.

إنَّ في المستشفيات ترى المرضى من فئة الشاب والشابة، والمسن والمرأة، والطفل والعاجز، وجميعهم لا حول ولا قوة لهم، إلا الطلب والتوسل إلى الله بأن يشفيهم.. في المستشفيات ترى الذي ليس بمقدوره أن يأكل الطعام بنفسه، وترى الذي يطعم ويسقى بواسطة أنابيب موصلة إلى معدته، وترى غير القادر على قضاء حاجته إلا بمساعدة أو في حفاضة أُلبس إياها، وترى غير القادر على إخراج بوله إلا عن طريق أنبوب موصل بكيس شفاف ملازم له، في المستشفيات ترى عشرات المرضى يستخدمون مرحاضا واحدا، ولك أن تتخيل إذا اردت استخدامه ووجدته متسخا وانت مُجبر على ذلك، وبك عدد من الأنابيب محشور بها، في المستشفيات لا يُمكنك أن تأكل ما تريد أو تلبس ما تريد أو تنام فيما تريد أو أن تتحكم في ساعات نومك وراحتك أبدا؛ فالوقت هناك ليس ملكك لوحدك، فأحيانا تصارع من أجل أن تُغمض عينيك للنوم، وحينما تهم بفعل ذلك، إلا وتسمع أنينًا هنا، وصراخا هناك، وصياحا بجانبك، ومريضا يتألم مقابلك، وآخر يتوجَّع بمحاذاتك، ففعلا إنها معاناة ما بعدها معاناة، ولكنه قدري.

نتَّفق بأنه يأتي القدر مرات ليقول لك "ها أنا أريدك هنا"، ويأتي إليك مرات ليقول "لك ها أنا بقدرة قادر مأمور بأن أبتليك أو اصيبك بكذا أو بكذا". فإما أن تصبر وتحتسب وأجرك عند الله، وإما سخط وغضب عليك من الله، وفي ظل ما تقدم، فإنَّ على الإنسان أن يشكر الله على نعمة الصحة والعافية، وأقولها إنَّ من لم يرقد في المستشفى ممثل ذلك في أجنحتها، فلم يتعرَّف بعد على الكثير من المآسي وعالم يعيش فيه جمع من البشر، وحكومتنا الرشيدة والأطباء والممرضون حقيقة غير مقصرين، فهم يبذلون جهودا كبيرة لعلاجنا، وتقديم أقصى ما يمكن تقديمة لصحة وراحة المريض.

عزيزي القاري، لك أن تقوم بحسبة بسيطة للمصاريف والأموال التي تدفعها حكومتنا الرشيدة لمختلف الأدوية التي تقدم لنا؛ فمرضى السكري -على سبيل المثال- لهم أكثر من دواء، ومرضى ضغط الدم لهم أدوية مختلفة، ومرضى القلب لهم أدوية متنوعة، ومرضى الكبد والشرايين والمرارة والطحال والرئة والكلى والقولون والكثير من المرضى الكثير، لهم علاجات أشكال وأنواع، ويعالجون بأدوية وعقاقير تتفاوت أنواعها وأسعارها وقيمتها وأحجامها وألوانها واشكالها وطعمها؛ فشكرا لكم سيدي ومولاي السلطان قابوس على ما قدمتم.

إنَّ الفترة التي قضيتها في المستشفى، ولازمت فيها السرير الأبيض كمريضة، وهي ليست المرة الأولى، تجعلني في كل مرة أقف على حقائق ومعلومات وحالات جديدة ومختلفة، وأقول "يا الله، ما ألطفك بعبادك"، ففعلا حينما يرى المرء مصيبة غيره تهون عليه مصيبته.

إنَّ المريض أيًّا كان منصبه ومكانته في مجتمعه وبلده، كل أمنياته تنصب في أنه أولا يريد الصحة والعافية، وحكومتنا الرشيدة وعلى رأسها مولانا جلالة السلطان قابوس -يحفظه الله ويرعاه-وفَّرت لنا مستشفيات كثيرة وكبيرة تقدم خدماتها لمختلف المرضى، وهو أمر تُشكر عليه. وفي هذا الصدد، حبَّذا لو تنشئ الحكومة مراكز ومجمعات طبية متخصصة فقط في علاج امراض الكبد؛ حيث يتوجه الكثير من المرضى للسفر عن علاج هذا المرض خارج السلطنة، سواء كان ذلك على حساب الحكومة او على حسابات المرضى انفسهم، وفي كل الحالات أمر ليس بهين؛ إذ يضطر الكثير من المرضى لترك أولادهم وأهلهم ووطنهم، والتغرب بعيدا للعلاج، وهذه مسالة حساسة ومكلفة وبها الكثير من المعاناة والصعوبات، ولا تخلو من المخاطر والضيق والتعب النفسي، وختاما نسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يشفي كل مريض، والحمدلله الذي كتب لي عمرا جديدا.

Sara_albreiki@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك