من الرمضاء إلى النار

مريم العدوية

...كانت "عُشبة "تجلس بانكسار قرب بركة الفلج في واحة مزرعة تبعد عدة أمتار عن البيت، بعد أن انتهت من جز العشب الذي سيكون عشاءً للماشية المربوطة خلف البيت، ترمي الحجر على الماء الذي يشكل دوائر صغيرة داخل بعضها تفضي بها إلى متاهة لا تنتهي من الأفكار، عبثاً تحاول أن تجد سبيلاً للتخلص من خالتها تارة ومن زوجها أو حتى أبنائها تارة أخرى، بل وحتى من الجيران والأقارب؛ فجميعهم يلوكون سيرتها ويرمون بعيونهم سهام الاحتقار كلما رأوها. لماذا دائماً يشعرونها بأنها على وشك أن تُخطئ؟ وبأنّها مهما فعلت لن تنجح ولن تكون ربة منزل يعتمد عليها ولا أماً جيدة ولا حتى زوجة صالحة؟!

تخنقها العبرة وهي تتذكر طلباتهم التي لا تنتهي بينما هي محرومة من أدنى احتياجاتها، تمسح دمعتها بطرف شالها الذي أوشك أن يتمزق لفرط الاستخدام، تتأمل رسمته الباهتة وألوانه التي اختفت، لكم تشتهي أن تغيب معها هكذا بهدوء دون أي أثر يُقتفى. في تلك الأثناء كان إبراهيم المدس يراقبُها من بعيد، إبراهيم الذي لا يعرف عنه أهل البلدة أي شيء منذ أن غادرها في مقتبل شبابه إثر مشاجرات عنيفة بينه وبين والده؛ كان إبراهيم شاباً عاطلاً يتسكع طيلة الوقت في الطرقات والجميع يشكو سوء أخلاقه، ومن ثم عاد إلى البلاد قبل بضعة أشهر بدشداشته الأنيقة وخاتمه الكبير الذي يلفت الانتباه بحجره الفيروزي، يترك المدس شعره منسدلاً على أكتافه ونظارته الشمسية تمنح وجهه كاريزما مخيفة بعض الشيء لامرأة بسيطة كعُشبة.

عاد بعدها منصور ووجد الشرر يتطاير من عيني أمه، والزبد الذي يملؤه السُباب واللعن لعُشبة أوشك أن يجف على شفتيها. أخبرته بأنّ زوجته المصون التي لا صاد ولا رادع لها لا أثر لها منذ بواكير الصباح الأولى، انتشر أبناؤها في المزارع المجاورة وبعضهم صعد أعلى الجبل، بحثوا عنها حتى المساء ولم يجدوا أيّ أثر لها، بينما منصور اكتسح وجهه السواد لفرط الخجل الذي انتابه وجلّ ما يخشاه فضيحة تعلق العار مع الفقر وقلة الحيلة على باب بيته.

عندما ركبت عُشبة سيارة إبراهيم المدس نظرت إلى الخلف وودعت كل شيء كانت تمقته، ودون أن تفكر في عواقب أيّ شيء كانت سعيدة بأزيز السيارة التي يقودها المدس بمرونة وهدوء تاركين خلفهما كل الشكوك والظنون التي ستلاحقهما وإلى الأبد. وعدها المدس برغد العيش وبالحياة التي لطالما اشتهت رائحتها ولو من بعيد، لم يكن لدى المدس شيء ليخسره وكانت هي من ناحية أخرى تشتهي أن تفعل أيّ شيء يقلب حياتها رأسًا على عقب ظناً منها بأن الحال سيكون أفضل، ولا تُبالي أن تخسر هذه المرة ولكن بإرادتها، ولو لمرة واحدة تختبر كينونتها وتفعل أي شيء لمجرد التغيير وبرجاء أن تجد الأفضل.

أقسم منصور على أنه بريء من عُشبة وغير مسؤول عنها، ودس أبناؤها وجوههم ليلاً تحت شراشفهم المبللة بالماء هرباً من الحر، وهرباً من العالم الذي لا يرحم، فالعيون والألسن بل وحتى الحيطان لا تكف عن القذف!.

عندما وصل خبر وفاة الخالة لعُشبة لم تستطع أن تترحم عليها، فلقد أخذت صورة المرأة المتسلطة التي نكلت بحياة والدتها من قبل ومن ثم بها، تكبر وتكبر حتى ابتلعتها وأسكنتها بحوراً من الحيرة والصمت، لا تفتأ تقتصُّ من عمرها الذي كبر كثيراً لو كان يُحسب بعدد أيام الشقاء والبؤس. خالتها كانت توأم والدتها ولكن شتان بين الاثنتين فوالدتها حمامة وديعة بينما خالتها لبؤة شرسة متأهبة دائماً لتنقض على من أمامها. حكت لها والدتها كيف أنها عادت أرملة مكسورة القلب وهي في يدها تصرخ جوعاً وخوفاً بعد أن تنكر أعمامها لها، وحين لم تجد من تلوذ إليه وتأوي إلى جناحه كان الخيار الوحيد بيت الخالة، التي قاسمنها الفقر والفاقة مقابل اللقمة والسقف. كانت والدتها تعمل بصمت كالخادمة لخالتها ومن بعدها هي فلا خيار آخر بين أيديهن.

في حافلة تقل الموظفات الوافدات تجلس جميلة وتخفي تحت مساحيق المكياج الرخيصة عُشبة التي لم تتغير ولم يكف البؤس عن ملاحقتها، ينتظرها في شقة حقيرة إبراهيم المدس؛ ليأكل راتبها الزهيد وما تبقى لديها من رفات كرامةٍ وحياةٍ بعد أن عادت إلى القرية تستند بعكاز كاذب وطلبت الطلاق وحصلت عليه مقابل نسيان أبنائها إلى الأبد.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك