سائح يعشق جمع الصور

أمل السعيدي

في مقابلة مع عبد الرحمن منيف وهو الكاتب المُفضل بالنسبة لي وأثناء حديثه عن عمله الأثير "مدن الملح" وعن ترجمته إلى لغات عديدة كان من بينها اللغة الفرنسية مؤخراً، يقول إنّ العمل الذي يتناول قضايا محلية يصبح محل اهتمام، وفهمت من خلال ذلك كيف أنّ الخصوصية التي يتمتع بها أي مجتمع، شيء في غاية الأهمية بالنسبة لعمل أدبي أو فني يتناول قصة ما في هذا المجتمع. لأنّ العمل الفني إذا أراد أن يصدر للعالم كله، عليه أن يلتفت إلى روح الإنسان في مكان مُعينٍ من هذا العالم. وأذكر الآن بينما أكتب مقالي هذا مقدمة كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار، الذي ترجمه غالب هلسا، وحديثه عن الفرق بين الأدب العالمي والأدب الكوزموبوليتاني حيث يقول: "ولتوضيح هذا المصطلح في مواجهة وتضاد مع مصطلح الأدب العالمي أقول: إن ما أعنيه بالأدب العالمي هو ذلك الأدب الذي يستطيع أن يتبناه الإنسان ويجد فيه خصوصيته، أي ذلك الأدب الذي تقول لنفسك حين تقرأه "هذا ما كنت أريد قوله، ولكن هذا الكاتب سبقني إليه" ومثل هذا الأدب يشق طريقه إلى العالمية ولكنه يفعل ذلك -وهذه مفارقة- عبر ملامح قومية بارزة وقوية، وإحداها المكانية. أما الأدب الكوزموبوليتاني فهو ذاك الذي يفتقد الخصوصية والأصالة. تحس أنّه يُمكن أن يحدث في أي مكان في العالم ولأيّ إنسان عدا مكانك وشخصك كقارئ، إنّه أدب يُشعرني بالغربة عن العالم، إذ يقول لي إنّ الإنسان هو مجموعة الأفكار المسبقة عنه، وهو ما يجب أن يكون. فيجعلني ذلك أحس أنني مختلف عن الآخرين، وأنّ هنالك خطأ في تكويني.

الأدب العالمي ما يتم التعبير عنه بالصورة بينما الكوزموبوليتاني فيعبر عنه بالزخرفة (الاستعارة، الكناية، المجاز وغيرها. الأول ينقل تجربة في حين يعبر الثاني عن فكرة).

هذا الكتاب ترجمه الأديب الأردني غالب هلسا في عام 1984، لابد إذن من أنّ الفكرة هذه التي يدعو إليها غالب هلسا هنا أصبحت مشاعة وما جعلها أكثر وضوحاً بالنسبة لنا، هي الجوائز التي يحصل عليها الفنانون في شتى أنحاء العالم عن أعمالهم الوثيقة جداً بمجتمعاتهم. لا بل إننا كعرب دخلنا مضمار السباق واللهاث خلف هذه الجوائز باستخدام قضايا محلية، تعتبر الإشارة إليها لمجرد الإشارة فقط إنجازا كبيرا. فالأفلام التي تتناول التابوهات المحرمة مثلاً، تتأهل لنيل الجوائز العالمية. يكفيك أن تشير لموضوع المرأة في فيلمك القصير واضطهادها في العالم العربي ليحوز فيلمك حتى وإن كان سيئاً من الناحية الفنية على التقدير والاهتمام. لقد هالني جداً وأنا أشاهد أفلاماً عديدة لعرب، تتناول موضوعات يتم معالجتها بسذاجة كبيرة إلا أنها فازت بجوائز عالمية. وبعد هذا كله، ظهر لدينا مجموعة من الكتاب والفنانيين ممن يعتبرون الإنسان في مجتمعاتهم بكل ما يعانيه من مشاكل سببها ثقافة المجتمع نفسه مادةً وموضوعاً لأعمالهم الفنية. إنني اليوم كفتاة تعاني من الاضطهاد ومن طمر للذات واستلاب كبير، تم تشييء إلى "موضوع". وأصبح الفنان يدعو للحفاظ على الشكل القائم من المجتمع في أسوأ الأحوال أو لا يدعو إلى التغيير في أحسن الأحوال على اعتبار أنّ المجتمع بما فيه مادة تمتاز بتلك الخصوصية التي يستمتع بتحقيقها في أفلامه. أشعر أحياناً كثيرة أنني عبارة عن "مادة فلكورية" غنية وثرية، تحقق لإنسان انتهازي رغبته في الوصول إلى المجد أو تحقيق ذاته الفنية.

ناهيك عن تسخيف القضايا التي يُعاني منها الناس في هذه الأعمال الفنية، إنّ الفنان الذي يشعر بالفوقية تجاه مجتمعه ليصبح هذا المجتمع بمن فيه "مجسم" يقوم فيه هذا الفنان بإلقاء الضوء عليه عبر عدسته أو قلمه أو ريشته لهو مدعاة للأسف. وإن استمرارنا بدفع أي عمل فني لطرقه مواضيع حساسة على حساب المعالجة الفنية لهو مشاركة في هذا الانحطاط الأخلاقي. كثيراً ما سمعت الزملاء بحكم عملي في المجال الفني يُعبرون عن رغبتهم بتنفيذ أفلام تتعلق بالمرأة ليفوزوا في المهرجانات، وسمعت في الآونة الأخيرة عن أولئك الذين يدعون صراحة لعدم الثورة على كل ما يمس الإنسان في مجتمعهم على اعتبار أن ما يثار عليه يرتبط بخصوصية هذا المجتمع، والمضحك أنهم أنفسهم لا يخضعون لتلك الأشياء التي قررنا كأحرار الثورة عليها. وأخيراً ما دفعني لكتابة هذا المقال صورة شاركها أحد الأصدقاء على تويتر كان فيها جملة تختصر هذا كله "وكان جرحي عندهم معرضاً لسائح يعشق جمع الصور".

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك