ذكرى وطنية خالدة

عبد الله العليان

بعد أيام قلائل تحتفل بلادنا بالعيد الوطني الخامس والأربعين، الذي تجسَّد في النهضة الحديثة لعُمان في العصر الحديث، وأعاد لها مكانتها اللائقة بين دول العالم، لدولة لها تاريخ تليد وحضارة كبيرة عرفتها كل الحضارات الإنسانية، وتفاعلت معها إخاءً وعطاءً.ومنذ انطلاقة النَّهضة العمانية كان من أهم أهدافها الرئيسة بناء الإنسان العُماني باعتباره هدف التنمية ومحورها كما قال جلالة السلطان في أحاديث كثيرة، لأنّ البناء الجديد الذي قادته هذه النهضة المُباركة كان يستهدف الارتقاء بالإنسان العُماني وتأهيله واستنهاضه ليقود المسيرة النهضوية بكفاءة واقتدار. كانت رؤية جلالة السلطان المفدى هي أنّ تحقيق النهوض لا يتأتى إلا ببناء الإنسان والمشاركة الإيجابية من أبناء عُمان حتى يكون البناءُ مثمراً والآمال مترسمة في الوجدان، وهذا ما قاله جلالته في الأيام الأولى للنهضة (إننا نأمل أن يكون هذا اليوم، فاتحة عهد جديد لمستقبل عظيم لنا جميعاً. إننا نعاهدكم بأننا سنقوم بواجبنا تجاه شعب وطننا العزيز. كما أننا نأمل، أن يقوم كل فردٍ منكم بواجبه لمساعدتنا على بناء المستقبل المزدهر السعيد المنشود لهذا الوطن. لأنه كما تعلمون أنه بدون التعاون بين الحكومة والشعب لن نستطيع أن نبني بلادنا بالسرعة الضرورية للخروج بها من التخلف الذي عانت منه هذه المدة الطويلة. إنّ الحكومة والشعب، كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه، اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد) .كانت التوجهات السامية في قضية بناء الإنسان العُماني وجعله المُحرِّك الأساسي للنهضة والتنمية جلية وواضحة في أن المُهمة الأولى لهذا البناء تقع على الإنسان، يقول جلالته -حفظه الله- "إنّ أن قناعتنا بأنّ العنصر البشري سيظل هو حجر الزاوية في حياتنا المُعاصرة مهما بلغت التكنولوجيا فسيظل الإنسان هو سيدها.. من هذا المنطلق اتجهت فلسفة التنمية في عُمان نحو بناء الإنسان العُماني عملياً وفنياً لمواجهة احتياجات بلده من ناحية، وتأهيله لممارسة مسؤولياته الوطنية في مجال التخطيط والتنفيذ من ناحية أخرى.. وهكذا فقد وسعنا مجال رعاية الإنسان في هذا البلد ووزعنا مسؤوليات رعايته على وزارات متخصصة تعمل على تنشئته وتربيته ووقايته وتشرف على تعليمه وتأهيله ضمن برامج خطة التنمية".

وأذكر أنني التقيت أحد الصحفيين الكويتيين، كان في زيارة إلى السلطنة في أوائل الثمانينات، وكانت زيارته الأولى لعمان "وجلسنا معه لفترة من الوقت نتبادل أطراف الحديث حول مواضيع عدة.. وسألته عن انطباعاته عن السلطنة كأول زيارة له فقال في الواقع إنّني مندهش لهذه المنجزات الضخمة التي تحققت في بلدكم وفي غضون الفترة الوجيزة التي لا تقاس في عمر الشعوب وقال لي: صدقني إنني لم أقل لك ذلك مجاملة لأنني كنت متصوراً غير الواقع الذي شاهدته ولمسته بنفسي وهذا شيء يدعو للفخر والاعتزاز لبلد شقيق تجمعنا به روابط كثيرة وعادات وتقاليد متشابهة واستطرد الزميل الصحفي قائلاً: إنّ ما لفت نظري الإنسان العُماني بصموده وسعة إطلاعه وثقافته ولا أكتمك سراً أني ذهلت عندما التقيت ببعض الشُباب العمانيين في السلطنة وجلست معهم وحاورتهم فوجدت فعلاً مستوى من الشباب الواعي المثقف الواسع الاطلاع بقضايا العصر ومشكلاته المُتعددة فسررت حقيقة لهذه الشهادة من شخص يتمتع بمقدرة صحفية ومستوى ثقافي ممتاز.

وهذا ما يؤكد النظرة التي أطلقها جلالته في مسألة البناء النهضوي، وأن بناء الفرد الذاتي ينبغي أن يسبق البناء المادي والعمران التراكمي حتى يمكن أن تتحقق الوحدة العضوية والمعطى التنموي الناجح بعناصره المتكاملة بين الفرد والنهضة.

فعلى الرغم من المصاعب الجغرافية والموارد المُحدودة في بدايات انطلاقة النهضة كان بناء الإنسان العُماني العلمي والمعرفي الشغل الشاغل لجلالته، فكانت كلماته صوتاً مدوياً في أرجاء عمان، فنتذكر مقولة جلالته الشهيرة (سنُعلِّم أبناءنا ولو تحت ظلال الشجر). كانت فلسفة التعليم التي اختطها جلالته كما يقول ـ الأستاذ حفيظ الغساني ـ تنطلق من عدة أهداف أساسية في بناء الإنسان العُماني تعليمياً، أبرزها العمل على تحقيق تكامل الفرد، والتركيز على مبدأ تحرير الوطن من رواسب الجهل والتخلّف، واعتبار التربية والتعليم الوسيلة الأساسية لاكتساب القدرات التي تساعد على تفهم طبيعة العصر العلمية والمعرفية، والتشديد على دور التربية في تدعيم الوحدة الوطنية لأفراد المجتمع، وغرس حب الوطن في قلوب المواطنين، والتأكيد على دورها كرسالة سامية في تعميق الإحساس بالمواريث الفكرية والحضارية .هذه الأهداف تأصلت عملياً في الفكر التربوي العُماني الذي يؤمن بالعطاء المُتجدد الذي يُنمي قدرات الفرد في سياق النَّظرة الشاملة المتكاملة، ولذلك كانت الأولويات لدى جلالته ـ حفظه الله ـ هي بناء الإنسان قبل أن تتحقق التنمية المنشودة إيماناً من جلالته (بأنّ الإنسان هو صانع التنمية وهو أداتها مثلما هو في ذات الوقت هدفها، وكل جهد يُبذل في مدِّه بالعلم النافع والمهارة الفائقة والخبرة المتنوعة هو في حقيقة الأمر إسهام قوي في تطوير المجتمع وبناء الدولة وأن بناء الإنسان الواعي القادر على تسخير مواهبه ومهاراته وطاقاته البدنية، ومن ثمّ كان حرص جلالته على بناء الإنسان العُماني فكرياً ووجدانياً ومادياً ومعنوياً وتوفير البنى الأساسية والمقومات الرئيسية للحياة الكريمة حتى يتمكن من استيعاب حركة العالم من حوله وحتى يتكامل ويتفاعل مع الإنسان في هذا العالم ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين .

من هذه المُعطيات تركزت النهضة العُمانية الحديثة على الإنسان العُماني باعتباره المحور والركيزة في أيّ مُنطلق من مُنطلقات البناء النهضوي الحديث، وهذا ما عبّر عنه صاحب الجلالة السلطان المفدى من أنّ (الإنسان العُماني هو الأمل في أية خطة تنمية ويبقى السد الذي تصب عنده كل الينابيع).وعبَّرت عُمان نتيجة هذه السياسة، كما يقول خالد بن محمد القاسمي، خطوات جادة وصحيحة في تعاطيها مع المتغيرات والمناخات الاقتصادية المتقلبة في العالم من جراء الأزمات الاقتصادية وتدني أسعار النفط، ولذلك فإنّ شعار الاعتماد على الذات الذي اعتمدته الحكومة الرشيدة بتوجيهات من جلالته، كان العامل الأول في التقليل من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة هذه التغييرات الاقتصادية . وظل بناء الإنسان "العماني ورعايته هو الخط الثابت والمُستمر لو تغيرت الخطط والظروف .. وقد أكَّدت ذلك المفاهيم العامة التي تحكم عملية التنمية في عمان وهي: أن العملية اجتماعية وثقافية وحضارية شاملة وليست عملية تنمية اقتصادية فقط.. وأنّ الإنسان العُماني هو هدف التنمية ووسيلتها للتحقيق والاستمرار، وأنّ على العُمانيين أن يعملوا بكل إصرار من أجل تقليل الاعتماد على الخارج .. وتقليل الاعتماد على مصدر واحد رئيسي للدخل الوطني .. وأنه يجب تنويع مصادر الدخل القومي عن طريق استغلال الثروات الموجودة فعلاً مثل الثروة السمكية وتنمية القطاع الزراعي..وزيادة الإنتاج عن طريق الأيدي العاملة الوطنية الماهرة والمدربة .. والتعامل مع التنمية باعتبارها وسيلة وليست هدفاً .. وإنما الهدف هو الإنسان الذي عن طريقه وحده تستطيع عمان أن تكون في مكانها اللائق بها والمتناسب مع حضارتها العريقة. من هذه المنطلقات كان الاعتماد على التعليم والتأهيل البوابة الحقيقية لبناء الإنسان العماني لتحقيق التنمية البشرية المستمرة والجادة "هي عملية متواصلة لسد احتياجات التنمية من الكوادر الوطنية المؤهلة من ناحية، والإعداد للدخول إلى القرن الحادي والعشرين مسلحين بالوعي الذاتي بالهوية الوطنية، وقادرين في نفس الوقت على التفاعل مع أدوات العصر في كل المجالات من ناحية ثانية. والذي يزور عُمان ويتفقد المرافق التعليمية والتنموية في كل أنحاء عُمان يلمس الموارد الأساسية التي تسخر لتنمية الإنسان العماني باقتدار وتفانٍ وإتقان وهذا هو "سر القوة والتقدم الحقيقي الذي تشهده السلطنة، تلك الحقيقة تتمثل في الإنسان العُربي العُماني الذي صاغته تجارب الماضي وتجذر في أرضه التي يحبها ويتفانى في أداء دوره من أجلها العربي العُماني هو الذي يحمل على عاتقه مسؤولية التغيير ويتصدى للقيام بدوره الإيجابي في خطط التنمية الطموحة في بلاده . يحرص على موارده ولا يتخاذل في أداء دوره ويحرص على التعلم، وتدفعه القيادة السياسية إلى المواقع القيادية الفاعلة في المجتمع. وهذا الإنجاز الرائع على المستوى الإنساني العلمي والمعرفي جعلت الكثيرين يتساءلون لماذا وكيف استطاع هذا الشعب في سنوات قلائل أن يستعيد مكانته وأن يصل؟ فاهتدى إلى إجابة شافية وهي أن إرادة القيادة استطاعت أن تُفجر طاقات هذا الشعب العماني من خلال البناء الذاتي لهذا الإنسان، وأن تنطلق قدراته الكامنة" في النفس العمانية. ولأنّه يريد أيضاً .. فقد استطاع أن يحول طاقة الطموح المتفجر المسنود بالإرادة التي لا تعرف المستحيل، إلى قوة مكتسحة من العمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل ولا يقف عاجزاً أمام الصعاب ولا يقنع بما تحقق، بقدر ما يكون ذلك دافعاً له لتحقيق المزيد. إنّ شعباً يمتلك من الخصائص والصفات كهذه، ليس غريباً عليه أن يُحقق ما يُعجز غيره من الشعوب التي تتوفر لديها الإمكانات المالية، ولكنها تفتقر إلى الإرادة والطموح.

تعليق عبر الفيس بوك