المنتدى الخليجي للإعلام السياسي يواجه تحدي تقييس التسييس

عبيدلي العبيدلي

تحت شعار "الإعلام والسلم الأهلي"، انطلقت يوم الأربعاء الماضي، الموافق 11/11/2015 أعمال الدورة الثالثة لأعمال المنتدى الخليجي للإعلام السياسي. لن أكرر هنا وقائع ما تناوله المشاركون من موضوعات تتعلق بعلاقات التأثير المتبادلة بين الإعلام والسلم الأهلي، رغم أهميتها، وغزارة المادة التي احتوتها، فقد قام بتغطيتها العديد من وسائل الإعلام العربية والإقليمية من صحف وفضائيات ومحطات إذاعية. ولكني عوضاً عن ذلك سأتوقف عند أربع محطات محورية ألقت الحوارات التي استمرت ما يزيد على أربع ساعات، وتوزعت على ثلاث جلسات، الأضواء عليها، كونها مسَّت جوهر العلاقات العربية الوطنية والبينية التي يتشكل منها المشهد السياسي والاجتماعي العربي اليوم.

أولى تلك المحطات هي الإشارات السريعة الخاطفة التي جاءت في مستهل أعمال المنتدى على لسان المدير التنفيذي لمعهد البحرين للتنمية السياسية ياسر العلوي، في كلمته المختصرة عن دراسة " الصحافة العربيّة وثقافة الاختلاف:(دراسة تحليليّة)". لقد عرض العلوي في عجالة، ربما تكون مقصودة حرصًا منه على الوقت، مجموعة من الجذاذات الإحصائية التي تكشف الكثير من الوقائع ذات العلاقة بمستوى، وطرائق، تناول الصحافة لمسألة "الاختلاف". ويمكن لمادة هذه الدراسة القيمة أن تتحول إلى رصيد معرفي، خاصة عندما تتراكم موادها عبر دراسات قادمة ذات علاقة بالجائزة السنوية التي رصدها "معهد البحرين للتنمية السياسية"، يكرم فيها الفائزون ممن يتناولون موضوع الجائزة الذي تختاره اللجنة التنظيمية العليا التي تقف وراء الإعداد لأعمال "المنتدى الخليجي للإعلام السياسي".

وفي إشارة سريعة لما جاء في تلك الدراسة الغنية من مُعلومات إحصائية، توجتها مجموعة من النتائج المستخلصة منها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر " توزيع التكرارات والنسب المئوية لمواضيع الاتصال الاجتماعية التي تناولتها مواد الرأي في مجال ثقافة الاختلاف". تقول تلك الدراسة -استنادًا إلى جدول إحصائي عرض نسب المواد المرصودة، تتحول الأرقام المدونة في الجدول من مجرد أعداد صماء إلى ثروة معرفية يُمكن استخدامها في دراسات مستقبلية تسبر أوضاع الواقع كي تخطط لآفاق المُستقبل- "يتضح من نتائج الجدول السابق أنّ فئة (التعايش السلمي) جاءت في مقدمة قضايا ومواضيع الاتصال الاجتماعية التي تناولتها مواد الرأي في مجال ثقافة الاختلاف وتكررت (264) مرة بنسبة (%16.8)، تلاها (السلم والأمن الاجتماعي) وتكررت (254) مرة بنسبة (%16.1)، ثم (الاختلافات)، وتكررت (237) مرة بنسبة (%15.0)، ثم (السلام)، وتكررت (181) مرة بنسبة (%11.5)، تلاها (العدل والمساواة الاجتماعية)، وتكررت (147) مرة بنسبة (%9.3). في حين جاءت فئة (العقد الاجتماعي)، كأقل قضايا ومواضيع الاتصال الاجتماعية التي تناولتها مواد الرأي وتكررت (59) مرة بنسبة (%3.7)، ثم (التغير الاجتماعي)، وتكررت (60) مرة بنسبة (%3.8)، ثم (حق الانتماء)، وتكررت (70) مرة بنسبة (%4.4)".

ثاني تلك المحطات هي إحدى القضايا غير الواضحة لدى الكثيرين منّا، وحركت المياه الآسنة التي تلطخ أوساخها العقل السياسي العربي، والتي أدت، كما وصفها أحد المشاركين إلى عملية يمكن أن يطلق عليها "تبييض الأخبار، وفي أحيان كثيرة القيم والمفاهيم العربية"، من خلال بث أخبار غير صحيحة عبر مصدر غير موثوق، لكن تتلقفه بتصميم وتخطيط مسبق إحدى القنوات الإخبارية الناجحة، ممن تمتلك مصداقية بنتها عبر سنوات من العمل الإعلامي. تتولى هذه الأخيرة، تماماً كما تتولى بعض المؤسسات المالية العريقة تبييض الأموال بحثاً عن زيادة في الأرباح إلى حد المضاعفة اللامحدودة، تبييض تلك الأخبار سعيًا وراء إثارة تحقق لها هي الأخرى انتشارًا لا محدودًا. هذه الظاهرة ترفع علامات استفهام كبيرة حول المصداقية التي تدعيها العديد من القنوات الإخبارية "العريقة"، التي لا تكف ترديد تمسكها "بالموضوعية" عند رصد الخبر، و"الحيادية" لحظة إعادة بثه. تماماً كما تلسع نيران تبييض الأموال المُستثمرين الشرفاء، تشوه أوساخ تبييض الأموال عقول السياسيين العرب الأنقياء.

المحطة الثالثة كانت العلاقة بين التشريع والإعلام، ومدى قدرة المؤسسات التشريعية القائمة على وضع المقاييس والمواصفات القانونية التي تنظم أنشطة وبرامج المؤسسات الإعلامية العاملة في المنطقة العربية. هنا توقف المشاركون عند تحديين مركزيين: الأول منهما هو سرعة وتيرة عمل المؤسسات الإعلامية في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، الأمر الذي يضع إدارات التشريع العربية في سباق لا يتوقف مع الزمن ويرغمها على اللهث، ربما غير المجدي، لملاحقة المستجدات، ودراستها قبل هضمها كي تتمكن من تنظيمها وفق الأطر التشريعية الملائمة التي تضمن تقنينها دون تقييدها. التحدي الثاني هو ظاهرة العولمة وما أفرزته على أرض الواقع، حيث تهشمت الأطراف الجغرافية، وتلاشت - إلى حد بعيد، الحدود السياسية، وتحول العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة، الأمر الذي أفقد المؤسسات التشريعية نسبة عالية من السلطات التي كانت تتمتع بها، والصلاحيات التي كانت تمارسها.

رابع تلك المحطات يصل إليها، وبدون قرار مسبق، من يحاول أن يضع مسافة بينه وبين صخب تلك النقاشات الحية والغنية في آن، ويأخذ نفسا عميقًا، يترآى له من خلف منصة المتحدثين صورة زاهية لمشروع صممت معالمه الأولية أنامل مهندس بارع، تطمح إلى وضع قيم مقيسة للعمل السياسي العربي، من خلال فعاليات هذا المنتدى. فهل نحن أمام مشروع إستراتيجي يُحاول أن ينتشل العقل السياسي العربي من عفويته كي يضعه أمام مقاييس صارمة، على من يُريد أن يمارس العمل السياسي أن يتقيد بقيمها، ويخضع سلوكه لمقاييسها، إن هو أراد أن يتبوأ الموقع المؤثر الذي يطمح إليه.

في اختصار شديد، تُسيطر على تفكير المشارك في المنتدى الثالث فكرة أنّه أمام مشروع تقييس للعمل السياسي العربي. وهو تحد صعب وقاس لا شك فيهما. لكن نجاحات معهد البحرين للتنمية السياسية في جولاته الثلاث، وتصديه بشجاعة لتحديات: "التنشئة السياسية"، و"الاختلاف"، وأخيراً "السلم الأهلي"، يجعلنا نثق في نجاحه في عملية التقييس هذه، وهو عمل عربي، إن لم يكن دولي، رائد بما يحمله طموح التحدي من معنى.


تعليق عبر الفيس بوك