حقوق الإنسان في دول الخليج العربي

ناصر محمد

تعمَّقت فكرة "سيادة" الدولة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب التدخلات السافرة من دول الوفاق على جيرانها في الحربين العالميتين. إلا أن عدم التدخل في الدول لا يعني عدم التدخل في أفرادها، وهنا كانت العلامة الفارقة بين ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 الذي يحمي الدول من الاعتداء على بعضها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الذي أعلن حقوق الأفراد أمام حكومات دولهم وحمايتهم من الاعتداء عليها.

ولكن بقدر ما كانت السيادة حماية للدول من الإنجرار إلى حروب مدمرة أخرى إلا أنها كانت سببًا أيضًا في قمع الشعوب باسم حماية الأنظمة؛ خاصة في دول العالم الثالث. فبعد أن كانت الشعوب منهمكة في التخلص من الاستعمار واجهت خطراً أكبر في الأنظمة الحاكمة التي خلفت الاستعمار التي مارست القمع على شعوبها باسم الوطنية والقومية وحماية النظام العام. والخروج من سيادة الدولة إلى جهة خارجية للشكوى ليس بالأمر الهين وفقاً للقواعد الدولية من مبدأ عدم التدخل، إلا أن المجتمع الدولي حاول الخروج من هذا المبدأ الخانق وذلك باستخدام أداة اختراق ليست بالجديدة ألا وهي الاتفاقيات الدولية، فالاتفاقية تقوم بفرض التزامات على الدول المصادقة عليها وتتيح للأفراد، كما للدول، أن يلتجئوا إلى طرف محايد للحكم في النزاعات المثارة غير القابلة للتسوية.

وبما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يكن ملزما للدول فقد تم الالتجاء إلى الاتفاقيات لخلق نوع من الإلزام للتأكد من تنفيذ مبادئ حقوق الإنسان تنفيذا حقيقيا، فتتابعت الاتفاقيات الدولية مثل العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذين تم اعتمادهما عام 1966، وظهرت اتفاقيات أخرى بعد ذلك أكثر تحديدا للمواضيع مثل اتفاقية منع التمييز العنصري واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية منع التعذيب واتفاقية حقوق الطفل وغيرها. وتعطي هذه الاتفاقيات المجال وفقاً لآلياتها المنبثقة منها الحق في متابعة الدول المصادقة عليها وذلك من خلال تقديم الدول تقاريرها وفقاً لمدة محددة في الاتفاقية والتأكد من تنفيذ بنودها.

ولكن السيادة مازالت منيعة على الرغم من محاولات الاختراق عن طريق الاتفاقيات الدولية وذلك بسبب أن المصادقة أو الانضمام لأية اتفاقية يعود في النهاية إلى إرادة الدولة الحرة، ولها الحق حتى في الانسحاب من أية اتفاقية صادقت عليها والتملص بالتالي من أيّ التزام دولي، ولهذا اتخذت الجمعية العامة في الأمم المتحدة قرارها الشهير 60/251 الذي أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة بدلا من لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتقرر أيضا في نفس القرار إنشاء آلية جديدة غير تعاقدية أي لا تتطلب تصديقا أو انضمامًا من الدولة ألا وهي آلية الاستعراض الدوري الشامل، وهي تفرض على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تقوم بعرض تقاريرها الشاملة عن أوضاع حقوق الإنسان في كل الجوانب، ومن هنا دخل العالم مرحلة جديدة جعلت فيه حقوق الإنسان محورا رئيساً لتقييم الدول.

على المستوى الإقليمي والخليجي خصوصًا، صادقت دول الخليج العربي على العديد من الاتفاقيات الدولية، وتسجل أول مبادرة للتصديق لدولة الكويت إذ صادقت على اتفاقية منع التمييز العنصري عام 1968م وتليها الإمارات عام 1974 ومن ثم قطر عام 1976 فالبحرين عام 1990. أما عمان والسعودية فقد صادقتا على أول اتفاقية عام 1996 وهي اتفاقية حقوق الطفل، وأغلب دول الخليج لم تنضم إلى العهدين الدولين إلا دولة الكويت والبحرين، في حين صادقت جميع دول الخليج على اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل وتخلفت السلطنة فقط عن الانضمام لاتفاقية مناهضة التعذيب. ولم تنضم أية دولة خليجية إلى اتفاقية الاختفاء القسري واتفاقية حماية العمال المهاجرين، وعلى الرغم من هذه المبادرات إلا أنّ هناك نوعاً من التأخر في تقديم التقارير أمام اللجان المعنية بهذه الاتفاقيات، كما أن العزوف عن التصديق على البروتوكولات المصاحبة للاتفاقيات والتي تتيح استقبال الشكاوى الفردية جعل من هذه الاتفاقيات شكلا أكثر منها تنفيذا. وبسبب خلق آلية الاستعراض الدوري الشامل عام 2006 فرض على دول الخليج تقديم تقارير أمام مجلس حقوق الإنسان عن أوضاع حقوق الإنسان فيها ومدى الانتهاكات المسجلة دون الاكتفاء فقط بمواضيع الاتفاقيات المصادق عليها، وبسبب تبعية مجلس حقوق الإنسان للجمعية العامة صارت التغطية الإعلامية أقوى حضورا، كما أن مشاركات المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني بتقاريرها عن الدول خلق نوعا التركيز على سمعة الدولة ومدى التزامها بالمعايير الأساسية لحقوق الإنسان.

تواجه دول الخليح عدة قضايا حساسة أثناء الاستعراض من أهمها صعوبة التوفيق بين الحقوق "العلمانية" التي فرضتها الاتفاقيات الدولية والخصوصية الثقافية الدينية والقبلية التي تتمتع بها شعوب المنطقة، فحقوق المرأة مثلا لا تتناولها الدول الخليجية بطريقة مطلقة بقدر ما تقننها وفقا لما تفرضه الشريعة الإسلامية وذلك من خلال التحفظات التي تقوم بها أثناء تصديق الاتفاقية. إلا أن هذه الرؤية تتعارض مع الرؤية الدولية والأخلاق الكونية التي لا تعطي حدودا للحقوق طالما ليس بها ضرر للآخر مما يعني مواجهة مباشرة- قد تكون لأول مرة- بين التراث الثقافي لدول الخليج العربي والتراث العالمي. كما أن الاستعراض يبرز بعض الإشكاليات السياسية التي تعاني منها دول الخليج وهي عملية تداول السلطة وفصل السلطات وعدم وجود أحزاب سياسية وعدم الوضوح بخصوص استقلالية المجتمع المدني، في حين أن النظام العالمي يجعل من هذه المؤسسات لبنة أولى لضمان حماية حقوق الإنسان من الانتهاكات التي قد تطال الأفراد من خلال أحادية السلطة.

إن عدم القدرة على التعاطي مع هذا التوجه الجديد من قبل دول الخليج العربي سوف يجعل هذه الأنظمة تحت المجهر، وقد تكون مطيّة للتدخل السياسي في سيادتها سلمياً أو عسكرياً بداعي نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان من عسف الأنظمة غير الديموقراطية، وربما تتمكن بعض الدول من تقديم بعض التنازلات بخصوص هذه الحقوق نظرا لطبيعتها السياسية المنفتحة، في حين تواجه الدول الأخرى صعوبة في التنازل كون الأنظمة الحاكمة مبنية على المزج المدني والديني في سياستها، ولا يخفى أن شعوب الخليج كذلك لها أيضًا تحفظاتها على هذه الحقوق الكونية بحكم موروثها التاريخي الثقافي، وهذا هو الغائب عن رؤية المجتمع الدولي الذي يتعامل مع الحكومات على أنها هي المسؤولة تمامًا عن ضمان تطبيق حقوق الإنسان على شعوبها.

تعليق عبر الفيس بوك