مقطوع من بحر

ابتهاج المسكرية

حينما نكونُ على شفيرِ المَوتِ نبدو أنقياء ناصعين خفيفي الوزن .. فسماع صوت كعب الموت من على بعد قارة، كفيل بعمل حمية مزدوجة تشفط شحوم القلوب وتُعيدها رشيقة ممشوقة كما فطرتها، وما حب الأوطان سوى خدمات غير مدفوعة التكاليف،لا بد من امتحان تُكرم فيه أو تُهان وجاء الاختبار فجائيًا صاعقياً على غير استعداد، ولأنَّ طلاب المحبة والسلام متفوقون حتى العظم نجحوا بامتياز، تشابالا مر مرور الكرام، بلا وطأة أو صخب في مشهد سريالي لا أستطيع وصفه سوى بمترفِ الجمالِ وإن اعتبر البعض وقاحة أنه تلمح أطنان من الجمال داخل برواز من البشاعة والخطر .. إلا أنّ ثمة أمر استوقفني وأنا أرقب الحدث من خلف شاشات بلورية بقلب وجس مضطرب النبض، لطخة سوداء في المشهد يلفظها أخطبوط التمييز العرقي، أعيد المشهد مراراً أراه من كل الزوايا أحاول "بلعه" وتمريره ودعك اللطخة الغامقة المتفشية بكلور اللامبالاة إلا أنّها تكبر تنتشر تتمدد.. تفيض على البياض الناصع للمشهد، عُمال من جاليات مختلفة لم تنصفها الإنسانية في حضرة المهاب السيّد موت وتجعلها على ذات المرتبة في حق الحياة مع المواطنين، فمراكز الإيواء مقسمة تقسيماً عنصرياً بغيضاً لا يشبه تعالينا على الطائفية والمذهبية وانتصارنا المُهيمن عليها، فحتى يأويك هذا الملجأ أشهر جوازك ولغتك ومجلدات تاريخك وأنبوب اختبار مليء بقطرات دمك، فالعُماني له حق الحياة أولاً وحياته تُحطم سقف أسهم البورصة في سوق الأعراق حتى على الموت لا نخلو من التمييز والتفريق..

إنسانية تكتسي لا إنسانية، ولأن "على رأسنا ريشة "ونعامة أيضاً، تخيلوا هذا السيناريو، أسرة عُمانية يعمل لديها عامل آسيوي تحتاج لمركز إيواء تفر بجلدها من منزلها وعند باب المركز تودِّع العامل الفقير" ونشوفك على خير" تقسيم لا أفهمه ولا أدري منطقه، متى نحطم جدار الاختلاف بتوحدنا واندماجنا، ثم ماذا بربكم يوحدنا إن لم توحدنا المصائب والأزمات وكيف نكشف نخاع إنسانيتنا المضطربة إن لم تكشفها الأشعة السينية للموت؟.

ولأن السواد جادٌ ولا يعترف بمهزلة التدرجات، فتأثيره مغرق في السلبية حتى القاع على المدى القريب لو -لا قدّر الله - أصيب مركز إيواء الوافدين دون سواهم لأسباب قدرية صرفة، وتضرر المعدمون بل وفارقوا الحياة، كيف ستنجو السلطنة من مقصلة المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وبأيّ دم ذئب ستلوث قمصانهم لتقنع الجميع ببراءتها وصدق نوياها ومساواتها الجميع بالاهتمام والرعاية،هذا بخلاف استفحال الشعور بالدونية والاضطهاد وتضييق مساحة الأمان واستحالتها طوقاً يصك الرقبة ويخنقها في وطن يعيشون به ويستظلون بسقفه..

تأثير هذا التقسيم العليل يتخطى الوافدين ورياحه تكسر جذرنا قبل أغصاننا ذلك أنّ الدروس تأخذ من عصارة المواقف المتكومة، حين ننجد المواطن من لهيب الردى أولاً لأنه مواطن نحن نقول لرجل الدفاع المدني عند اندلاع حريق في حي سكني أهرع للمواطن أولاً دمه أغلى، حياته أجدر، ونهمس في أذن الطبيب "المواطن يُسعف في الصدارة وبعد ذلك لا بأس أن تعرج على باقي المرضى" وهلم جرا، أذكر انفجار بانكوك وإصابة الشاب الطيار العُماني إثرها وما خلّفه فينا الحدث من ترقب للاطمئنان على الشقيق بالمواطنة والإنسانية ذلك أن الخوف تعززه المسافة والغربة، وغضبنا العارم لما عانته الأسرة العمانية المحتجزة في مطار الهند لخطأ -قانوني- في التأشيرة، ودننا لو أمكننا تدثير رعبهم بجلودنا واقتلاع تلك الأرض من تحت أقدامهم وإعادتهم إلى الوطن بعزة وكرامة وأنفة، فبالمناسبة لهؤلاء الوافدين أيضًا أهل وأحباب فكرة عزلهم في مأوى منفصل لوحدها كفيلة بصحوة مارد الخشية من قمته واستشاطة أوصاله.

تشابالا ولى أدباره وللعلم هو ليس مقطوعًا من بحر، فله إخوه زارنا من ظنناه أكبرهم لجهلنا بذويهم وسلالتهم فعاث فينا فسادا ودمارا، ويقول بأنّ له أشقاء آخرون قد يمرون وقد يحطون رحالهم -لا قدّر الله- ، لذلك بعد القبلات والأحضان وآيات الشكر والعرفان للجهد المبذول والكتف المسنود في صلب الأزمة حريُّ بنا التحدث والتناقش والبحث عن الثقوب لجدار سد الأعاصير والأزمات ومحاولة إيجاد حلول لرقعها.

e.k.a-00@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك