اتفق العرب على مفهوم السلم الأهلي واختلفوا على التقيد بقيمه

عبيدلي العبيدلي

من المنامة انطلقت أمس الأربعاء الموافق 11/11/2015 أعمال المنتدى الخليجي للإعلام السياسي في دورته الثالثة، تحت شعار "الإعلام والسلم الأهلي"، كي يتحول "المنتدى منبراً مستقراً ودائمًا لتعزيز ثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا الخليجية". وقبل ذلك كانت الندوة التي نظمها "معهد البحرين للتنمية السياسية" (2014)، تحت عنوان "دور وأهمية الخطاب الديني في نشر ثقافة السلم الأهلي"، من أجل " تعزيز السلم الأهلي بواسطة خطاب ديني مستنير". ويبدو أنّ مسألة السلم الأهلي تحولت إلى هم عربي مشترك خلال السنوات الماضية. ففي 2009 كان هناك اللقاء التدريبي في مدينة رام الله، ضمن مشروع السلم الأهلي الذي ينظمه ويشرف عليه "المركز الفلسطيني لتعميم الديمقراطية وتنمية المجتمع"، وفي 2014 التأم اللقاء الثاني لورشة عمل "مشروع تعزيز السلم الأهلي المحلي" بالشراكة مع "مركز المواطنية الفاعلة" والممول من الاتحاد الأوروبي، التي نظمه "المركز اللبناني للتربية المدنية"، وفي 2014 أيضًا نظمت وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية، ورشة عمل "مستقبل السلم الأهلي في مصر"، التي ناقشت "مستقبل حالة السلم الأهلي في مصر ، باعتباره أكبر الخاسرين حتى الآن من التصارع السياسي"، وقبل ذلك، في 2013 نظمت "محلية الحسكة للمجلس الوطني الكردي في سوريا" محاضرة "السلم الأهلي بين إرث الأجداد وضرورات المرحلة"، تحت شعار "لنعمل يداً بيد من أجل ترسيخ ثقافة السلم الأهلي". رغم هذه الدعوات المتكررة، والجهود المستمرة، نجد المنطقة العربية ما تزال تنوء تحت أعباء مرحلة تتلاشى فيها قيم "السلم الأهلي"، وتتراجع فيها سلوكياته لصالح أخرى أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنّها منافية لما يدعو إليه السلم الأهلي، وما يُبشر به من يدعون له.

يرجع البعض هذا التناقض بين الاهتمام العربي بالسلم الأهلي، واستمرار انتهاك قيمه إلى التباين في تعريف المؤسسات العربية لمفهوم هذا السلم، وتضاد رؤيتهم لها. لكن واقع الحال ينفي ذلك. فلو بدأنا بـ "معهد البحرين للتنمية السياسية"، لوجدناه يؤكد على أن فهمه للسلم الأهلي يرتكز على "إقرار الجميع بالحفاظ على سلام دائم يرفض كل أشكال العنف والتنازع أو يدعو إليهما أو يبررهما، حيث لا يتحقّق السلم المجتمعي إلا من خلال احترام التنوعات والتعددات الاجتماعية والفكرية فيه، ويأتي المنتدى الذي ينظّمه معهد البحرين للتنمية السياسية للعام الثالث على التوالي، مكمِّلاً في أهدافه لنسختيه السابقتين، من ناحية تعبئة وتحفيز مكامن القوة الإعلامية، وتوجيهها نحو ما يُعزّز من قيم وثقافة الديمقراطية، والتعايش السلمي، وثقافة الاختلاف والتَّسامح وقبول الآخر من جهة، ونبذ قيم التعصّب، والتوافق على تبنّي خطاب إعلامي يستوعب الاختلافات والتمايزات التاريخية من جهة أخرى".

ولا يختلف المفكرون والكُتّاب العرب ممن يدعون لنشر ثقافة "السلم الأهلي"، ومعهم المؤسسات العربية التي تضع في صلب الأهداف التي تسعى لتحقيقها ترسيخ مفاهيم السلم الأهلي عن رؤية المعهد هذه، بل إنّ هناك مثل الكاتب صلاح عبد الباقي من يرى أن "السلم الأهلي الدائم رفض لكل أشكال التقاتل، أو مُجرد الدعوة إليه أو التحريض عليه، أو تبريره، أو نشر ثقافة تعتبر التصادم حتميًا بسبب جذورية التباين، وتحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى آيديولوجية الاختلاف والتنظير لها ونشرها. ويعتبر أيضًا إعادة إنتاج لحرب أهلية التشكيك في جوهر البناء الدستوري ومواثيقه وحظوظ نجاحه في الإدارة الديمقراطية للتنوع. ويعني السلم الأهلي الدائم إيجاباً العمل على منع الحرب الأهلية في المجتمع".

وهناك كتاب من أمثال وليد سالم من يعتقد أنّ "هنالك علاقة صميمية بين تعزز المواطنة وتعزز السلم الأهلي. فكلما كانت الانقسامات العشائرية والقبلية والجهوية والفئوية والزبائنية وهي انقسامات ما قبل مواطنية سائدة كلما تراجع منسوب السلم الأهلي، وبالمقابل كلما تراجعت هذه الانقسامات لصالح الاندماج الاجتماعي على قاعدة المواطنية التعددية المتنوعة، كلما تعزز السلم الأهلي بوصفه حالة للتصريف السلمي الداخلي للنزاعات. ولا يتضمن تكريس المواطنة في هذا الإطار إلغاء للنزاعات، فالنزاعات جزء لا يتجزأ من صيرورة الحياة، ولكنه يتضمن الانتقال من التصريف السلبي للنزاعات من خلال مسارب عنفية كما هو الحال في مجتمعات ما قبل المواطنة، إلى التصريف السلمي لها، مما يحول النزاعات والحالة هذه من حالات تنتج دماراً أو تراجعاً، إلى حالات يتم توظيفها بشكل إيجابي من أجل تطوير المجتمع، وذلك من خلال الاستفادة من كل ما هو إيجابي من كل وجهة نظر وتركيب هذه الإيجابيات معاً مما يعظم الفائدة، وذلك بديل لإقصاء وتهميش وقمع وجهة نظر لصالح الأخرى".

ونجد بعض المجتهدين من أمثال الكاتب عبد الله الحريري من يجد في إرثنا الإسلامي مادة غنية تثبت دعوة الإسلام إلى التخلق بقيم السلم الأهلي، ويستشهد بالحديث النبوي الشريف ''من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، الذي أراد من خلاله الرسول الكريم عليه السلام أن يكرس مفاهيم السلم الأهلي في المدينة المنورة.

ويشاركه في هذا الاتجاه الكاتب محمد محفوظ، الذي يجد في الآية الكريمة {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، (سورة النحل، الآية 25)، ما يدحض الأصوات التي تحاول تجريد الإسلام من قيم السلم الأهلي.

ويجد القارئ في بحث "السلم الأهلي والتوزيع العادل للدخل" من إعداد: إبراهيم خليل عليان مادة غنية لنصوص إسلامية حول السلم الأهلي.

هذه المقدمة المكثفة عن اكتظاظ الأدبيات العربية المعاصرة والتاريخية بدعوات غرس مفاهيم "السلم الأهلي"، ترفع علامة استفهام كبيرة فيها الكثير من التحدي تقول، لماذا، نحن العرب، ما تزال تفصلنا مسافات فلكية عن التحلي بأخلاق السلم الأهلي، رغم أن هناك أمما أخرى، لا تفوقنا تقدماً ولا حضارة سبقتنا إلى ميادينه، وأحسنت التخلق بقيمه؟.

يأتي الجواب سريعاً وجاهزًا، كعادتهم اتفق العرب على مفهوم السلم الأهلي واختلفوا على التقيد بقيمه.

تعليق عبر الفيس بوك