المؤثرات الكبرى على تكوين شخصية السُّلطان قابوس

عبد المنعم همت

في العام 1718م، تضعضعت دولة اليعاربة (1650 - 1737م) نتيجة للانقسامات التي أطلت برأسها فاستنجد الإمام سيف بن سلطان الثاني بالفُرس لتثبيت دعائم حكمه فلم يتأخر الفُرس في الاستجابة إلى طلب الإمام فأرسلوا حملة بحرية دخلت مسقط في العام 1737م. وبات في حكم المؤكد حينها أنّ الفُرس قد أتوا كغزاة طامعين في عُمان وأرضها وسقط الإمام سيف في نظر النّاس قبل أن يسقُط عن الحكم . بدأ النَّاسُ يعتبرون ما قام به إعلاناً لانتهاء السِّيادة الوطنية لأرض عُمان . في العام 1742م، زحف الغزاة الجُدد نحو قلعة صحار لاحتلالها ولكن واليها في ذلك الوقت أحمد بن سعيد واجه الغُزاة ببسالة لأكثر من تسعة أشهر، أظهر خلالها مقدراته القيادية ورفضه للاحتلال الفارسي مما اضطر الفرس لتوقيع اتفاقية. كان هدف أحمد بن سعيد كسب الوقت لتوحيد الجبهة العُمانية ضد الغُزاة بالإضافة إلى حقن الدماء . هذا الاستبسال والحكمة السياسية جعلت النّاس يلتفون حوله وتم اختياره ليكون حاكمًا على عُمان في العام 1744 وفي هذا التاريخ بدأت مسيرة دولة البوسعيدي التي أسسها السُّلطان أحمد بن سعيد البوسعيدي . كهذا بدأت إشراقات دولة البوسعيدي بشموخ يصعد بفكره على واقع الضعف والاستسلام إلى علياء الصمود والحنكة التي حوَّلت والي صحار إلى حامل لواء التنوير والوطنية.

مكونات شخصية قابوس

أتى قابوس حاملاً جينات لا تعرف غير أن تكون هي خارطة المستقبل وملامح القفزة النَّوعية في دولة البوسعيدي. ولد قابوس في 18 نوفمبر 1940 في مدينة صلالة حاضرة محافظة ظفار، تلك المُحافظة التي تشتهر بالتنوع الإثني والجغرافي، فوالده، السيد سعيد بن تيمور، سليل أسرة البوسعيدي العريقة. وأمه، السيدة مزون، تنتمي إلى قبيلة المعشني المشهورة في محافظة ظفار. وفر له والده، السيِّد سعيد بن تيمور، تعليمًا نوعيًا فأحاطه بكوكبة من الأساتذة فتفتح ذهنه على قراءة التاريخ، واللغة العربية وآدابها، والعلوم الإسلامية. هذه الذخيرة جعلته يستبين مكامن الحقيقة والنور فانعكس ذلك على تفكيره وسياسته حتى صارت خطبه زخمًا معرفياً يحوي ضروبًا من الدين واللغة والحِنكة السياسية وبُعد النظر. وانتقل بعدها إلى أكاديمية ساندهيرست العسكرية الشهيرة في بريطانيا. جاء قابوس بشجرة تحمل سنابل النهضة فغرسها في الأرض الطيبة التي يصفها دائمًا (أنها لا تنتج إلا طيبًا). وهنا سأحاول تسليط الضوء على تكوين السُّلطان قابوس والذي حدَّده السُّلطان قابوس في اللقاء الذي أجرته معه صحيفة The middle east policyفي إبريل 1995 حيث أشار السُّلطان قابوس إلى مصادر تكوينه الفكري وهي الثقافة العربية الإسلامية، الثقافة الغربية الليبرالية والجندية حيث قال:" هنالك بالطبع الكثير من المؤثرات التي تؤثر على الشباب وهو يتقدّم نحو مرحلة النُّضج ...فبالنسبة لحالتي، كان إصرار والدي على دراسة ديني وتاريخ وثقافة بلدي له الأثر في توسيع قدراتي ووعيي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية عموماً. كذلك استفدت من التعليم الغربي، وخضعت لنظام حياة الجندية وهو ما يُمكن القول بأنّه خلق لديّ توازناً. أخيرًا، كانت لدي فرصة الاستفادة من قراءة الأفكار السياسية والفلسفية للعديد من مُفكري العالم المشهورين. في بعض الحالات وجدت أنني على اختلاف مع تلك الأفكار التي كانوا يُعبرون عنها. إلا أنّ هذا الاختلاف في حد ذاته أثبت جدواه وقيمته في تطور الأفكار التي تشكلت لديّ واعترافي وإدراكي بضرورة دراسة كل جوانب المسالة".

الثقافة العربية الإسلامية

لم يكن مصادفة أن يكون تكوينه الإسلامي يحمل قيمة التعايش السلمي وقبول الآخر، قبيلة والده تنتمي إلى المذهب الإباضي وقبيلة والدته تنتمي إلى المذهب السُّنِي .هذا التوازن الأسري خلق داخل قابوس البعد عن التعصب والاستعلاء المذهبي وجذر في تكوينه أن المذاهب تنوع وليس اختلافاً. هذا الواقع المستنير ازدهر ليصبح قنديل تسامح ومحبة وإخاء للآخر . فصارت عُمان بلدًا عربيًا إسلامياً لا وجود فيه للخلافات المذهبية، بل أكثر من ذلك، فهي الوعاء الجامع والأنموذج الإسلامي للتنوع المذهبي الذي يفضي إلى وحدة إسلامية سمحة بعيدًا عن التزمت وسجن الحقيقة عند مذهب إسلامي، فارتفع صوت العقل الداعي إننا لسنا دعاة اختلاف بل دعاة تنوع لا ينتقص من الآخر. ولقد حذّر قابوس في خطابه بتاريخ 18 نوفمبر 1994 من مآلات التعصب:

"إنّ التزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم. وهو في حقيقة الأمر، بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو وينهي عن التشدد"

الثقافة الغربية الليبرالية

الفكر الليبرالي له تأثير كبير في حركات الوعي والتنوير الحديثة برفعه لشعارات الإخاء،المساواة،حقوق الإنسان،سيادة القانون،الديمقراطية، فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة . بكل تأكيد أنّ هذه المبادي لها وقع خاص في بعض النفوس ولكن السُّلطان قابوس وجد نفسه دارساً لذلك الفكر وناقدًا حصيفاً لمكوناته ووجد نفسه على اختلاف مع بعض تلك الأفكار . فنقد الفكرة يُعد فكرة في حد ذاته. فدراسة جوانب الأفكار وجدواها تحتاج تمحيص وتدقيق عقلي لا يجدي معه النقل دون بصيرة. الثقافة الغربية بتأثيراتها ومؤثراتها لم تجعل السلطان قابوس ينقاد وراءها بل مزج بين الفكر الغربي والموروث العُماني المُتشبع بالقيم الإسلامية فنتج عن ذلك على سبيل المثال (مجلس الشورى) والذي يمزج بين الديمقراطية والشورى. فلم يأتِ مجلس يُطبق الديمقراطية الغربية كاملة وفي نفس الوقت لم تطبق فيه مفاهيم الشورى بماضوية وانغلاق وهذا ما يُمكنني القول عنه أنّه فكر النهضة الذي يمرحل الأهداف بعقلانية حسب طاقة المجتمع ليُعبِّر عن الواقع بناءً على المُتاح وليست أماني وأهازيج تناطح الضباب.

العسكرية

السُّلطان قابوس درس في أكاديمية ساندهيرست العسكرية ذات الشهرة العالمية والتي تأسست في إبريل 1741. تهدف هذه الأكاديمية إلى إعداد قادة المستقبل وترفع شعار (اجتهد لتقود) والأكاديمية تؤهل الملتحق بها ليصبح ضابطًا على دراية وإلمام بالأحداث والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . هذا المكون، حياة الجندية، صقلت قدرات السُّلطان قابوس القيادية فنجده يتَّخذ القرار دون تعجل ويتابع تنفيذه بنفس الروح القيادية . فكثيرًا ما يظهر أمام الناس بزيه العسكري والذي يُعطيه هيبة على هيبته وهي رسالة بأن القوة والحنكة والصبر من سمات القائد. بالإضافة إلى أنّ المجتمع العُماني نفسه يحترم الانضباط ويُثمن دور القائد الرحيم بشعبه المتفقد لأحوالهم.

 

تعليق عبر الفيس بوك