رحلة توماس وبن كلوت.. دروس

إيمان الحريبي

تُعيد رحلة الرحالة البريطاني الشهير برترام توماس، الذي عبر صحراء الربع الخالي في رحلة تاريخية مشهودة هي الأولى من نوعها في العام 1930، عبقَ الماضي والأصالة وروح التحدي والاستكشاف؛ فقد عَبَر توامس ومعه رفيقه صالح بن كلوت من أبناء بادية ظفار.

وثَّقتْ تلك الرحلة طبيعة المنطقة وتضاريسها والحياة فيها، بل إنَّ تلك الحياة دعتْ الرحَّالة إلى أن يعيش تلك الحياة ويتصرَّف كأبناء تلك المنطقة ويطلق لحيته ويلبس لباسهم ويأكل من أكلهم ويشرب من مشربهم. ومن هذه القصة -وغيرها- نعلم أنَّ هذه البلاد كانت وعبر الزمان والتاريخ مقصدا لكل باحث عن التاريخ والعادات الأصيلة؛ فالربع الخالي وصحراؤه مترامية الأطراف وإن كان معناها يُوحي بالفضاء والوحدة، إلا أنها كانت لتوماس وبن كلوت وأبناء تلك المنطقة حياة جديدة، ومعنى آخر للتحدي والاستكشاف والتوثيق لهوية تلك المنطقة. إذ ستتَّبع هذه الرحلة خُطى الرحالة الأوائل؛ حيث استغرقَ الرحالة برترام توماس وصالح بن كلوت ستين يوماً للوصول إلى وجهتهم عبر مناطق القبائل الصحراوية، والعواصف الرملية والطبيعة القاسية، ولهيب الصحراء الحارق وبردها القارس، واستطاعوا البقاء على قيد الحياة بكميات بسيطة من المياه والتمور واللحم المجفف والشوربة المعلبة. وستتم الرحلة هذا العام سيرا على الأقدام وعلى ظهور الجمال.

... إنَّ إعادة هذه الرحلة وتجسيدها في هذا الوقت، ونحن في غمرة احتفالات السلطنة بالعيد الوطني الخامس والأربعين المجيد، وبمباركة من لدن مولانا المعظم حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله ورعاه- إنما هي دعوة للشباب العماني لأن يُشمِّروا عن سواعدهم ويكشتفوا بلادهم وما بها من تاريخ عريق ومجد تليد يجدونه بين كل زاوية؛ ففي كلِّ ركن من هذا البلد الأصيل رواية تُحكى وتاريخ يُروى للجيل الحالي والمستقبل؛ فمَنْ أجدر من شباب عمان الأوفياء أن يكونوا السبَّاقين في ترجمة تاريخهم وتجسيد تفاصيله وتوثيقه ليكون مرجعا خصبا متجددا وحاضرا، يُستدعى في مثل هذه المناسبات الوطنية العزيزة؛ لنزداد فخرا وألقا بمكنونات حضارة عمان، ولا أعني هنا هذه الرحلة وحسب، بل إنَّ هناك تاريخا وأمجادا بحرية وحضارية وتاريخية أخرى، آن الأوان لها أن يتم إبرازها وتبنِّي مبادرات لإحيائها وتجسيدها وتأصيلها؛ فلايكفي أن نتغنَّى بها، بل يجب أن نعيشها؛ فهي مصدر إلهامنا وهي إحدى مكونات شخصياتنا العمانية التي أخذتْ منها القوة والرصانة والرزانة من ذلك البحر الذي جابه الأجداد، وصالوا وجالوا فيه، وعبروا محيطاته، ومن تلك الجبال الشاهقة التي كانت فيها حياتهم وبنوا هناك تاريخهم.

إنَّ تجسيدَ هذه الرحلة يأتي ليُثبت قدرة الشباب العماني على تحمُّل الصعاب لتحقيق الأهداف الجليلة؛ انطلاقا من الأخلاق الحميدة التي نشأوا عليها؛ نتمنى كلَّ التوفيق للمشاركين في هذه الرحلة في سعيهم لإعادة أمجاد أجدادهم وتاريخهم المشرق؛ إذ تهدف هذه الرحلة أيضا إلى غرس مفاهيم تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات وتحمل المشاق في سبيل الوصول إلى الهدف لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين؛ حيث سيبدأ هذا التحدي في العاشر من شهر ديسمبر المقبل ويستمر لمدة شهرين، وسيقوم رحالان عمانيان (محمد الزدجالي وعامر الوهيبي) ورحال إنجليزي (مارك ايفانز) بالمشي لمسافة 1300 كيلومتر لتحقيق هذا الهدف انطلاقا من بيت الرباط بمدينة صلالة.

ولإحياء مثل هذه التجارب الرائدة، يُمكن على سبيل المثال أن يتبنَّى القطاع الخاص إطلاق المبادرات التي تُعنى بإبراز التراث العماني وتاريخه، ويمكن أيضا أن تدعو وزارة السياحة لتنظيم بعض الفعاليات في المواقع السياحية والأثرية، وأن تقيم المسابقة لأفضل المبادرات التي تقدم توثيقا سليما عبر البرامج الإلكترونية وتطبيقات الهواتف والمواقع الإلكترونية، وأيضا إقامة المراكز التعريفية بالآثار التي تقدم المعلومات التاريخية الموثقة للزوار من المواطنين والسواح في تلك المواقع؛ فمثل هذه التجربة ومثيلاتها هو ما يبحث عنه السائح، فهو لايبحث عن غابات الأسمنت بقدر ما يبحث عن روح الأصالة والميزات الحضارية، أو ما يمكن أن نسميه "الخصوصية العمانية" في إطارها الطبيعي والتاريخي والواقعي دون رتوش.

تعليق عبر الفيس بوك