التعليم بالحب

عيسى الرَّواحي

في مقال الأسبوع الماضي الذي كان بعنوان "الشعور الأبوي في رسالة التعليم"، عقَّب أحد الإخوة الأعزاء على المقال، ومن ضمن ما جاء في التعقيب: "... إنَّ طريقة تعامل الطالب مع المعلم ذات أثر كبير على سلوك الطالب وتحصيله العلمي، وقد لاحظت ذلك من مع ابني... من خلال اهتمامه الواضح ببعض المواد وتفوقه فيها؛ فعندما ذهبت لزيارة المدرسة قبل أسبوعين قابلت معظم المدرسين، وأحسست بالفارق بين تعامل معلم وآخر واهتمامه بالطالب وحرصه على بناء علاقة أبوية بينه وبين الطالب، وصلت إلى حد حرص ابني على ألا "يزعل" المعلم منه من خلال تفوقه....)، وشبيه بهذا الرد ما حكاه لي أحد الأصدقاء الذي يواصل دراسته بجامعة السلطان قابوس في علم الإدارة؛ حيث أفاد بأن هناك من الأساتذة الذين يُكرِّهونه في الدراسة ويكرهونه في العلم "من خلال أسلوبهم وتعاملهم معنا رغم كبر سننا"، وهناك من هو عكس ذلك.

ومن خلال هذين الموقفين مع هذين الطالبين رغم تفاوت سنهما، ومواصلةً لما ذكرناه في الأسبوع المنصرم يتبيَّن لنا بجلاء تام أهمية أن يكون التعليم بالحب هو الأسلوب المتبع في العملية التعليمية وعند كل المعلمين، وهذا الأسلوب من التعليم وما يحمله من مضامين ودلالات وأهداف ونتائج قد عاشه كل طالب في مراحله التعليمية مع مجموعة من المعلمين، وافتقده مع آخرين، لكنَّ الفارق بين الفريقين يبدو واضحا، والنتيجة معلومة، فشتان بين معلم يستخدم الحب في تعليمه من خلال تعامله مع طلابه حيث الابتسامة الصادقة، والأبوة الحانية، والنصيحة المخلصة، والأسلوب الراقي، والخلق الرفيع والألفاظ الجميلة، والعدل والمساواة في المعاملة، والتفاني في إيصال المادة العلمية، والإتقان في الشرح، والتفنن في طرائق التدريس، والابتكار والتجديد والتنويع في عرض المادة العلمية، ومواكبة العصر في استخدام الوسائل والتقنيات الحديثة في العملية التعليمية، وتطبيق التعزيز بشتى أنواعه، وبين معلم مقطب الجبين عابس الوجه قاسي القلب غليظ القول كثير التهديد والوعيد كثير التذمر والشكوى، لا يعرف التجديد والتنويع والابتكار داخل حصته الدراسية، وإنما على نهج واحد لا يحيد عنه، وطريقة ثابتة لا تتغير، وأسلوب جامد لا يتطور، لا يجد التعزيز في تدريسه موقعا، ولا تجد كلمات المدح والثناء إلى طلابه سبيلا.

ولعلنا نتفق على أنَّ أكبر أزمات التعليم لدينا في الوضع الراهن هي عدم حب الطلاب للعلم وعدم رغبتهم في التعليم في مختلف مراحلهم الدراسية بشكل عام، ولعل أبرز أسباب ذلك يكمن في غياب أسلوب "التعليم بالحب" الذي أصبح مفقودا وللأسف الشديد حتى في مرحلة الروضة والتمهيدي عند مدارس كثيرة، فأصبح الطفل لا يحب المدرسة منذ بدايات عمره.
إنني أكاد أجزم بأنه لو استطعنا أن نطبق هذا الأسلوب في العملية التعليمية بالطريقة المثلى؛ لكانت النتائج مذهلة، ولتغير وضع التعليم من حالته التي يُرثى لها إلى حال مشرفة وقدر رفيع، وهذه هي حال الدول المتقدمة حيث التعليم بالحب هو الذي يؤتي ثماره لديهم؛ فالرغبة في العلم والتعليم، والبيئة المدرسية الجاذبة، والنظام التعليمي الشائق، والمكانة السامقة عند المعلم، وأساليبة التربوية التي ينتهجها في تدريسه، والحرص الشديد على تطوير ورفع مستوى كفاءته وكل ما يتعلق برسالته النبيلة.

إنَّ ما يُحققه التعليم بالحب من تغيير في السلوك، ورغبة في التعليم، ومتانة في العلاقة بين المعلم والطالب، لا يمكن أن يحققه أي أسلوب آخر حسب وجهة نظري، إنه عمل قليل لكنه يحقق المستحيل؛ فهو لا يحتاج جهدا أو وقتا أو مالا بقدر ما أنه أسلوبٌ سحري يأسر القلوب ويأخذ بالألباب، وهو من أرقى الأساليب وأفضل الطرق في التعامل بين البشر، وهو أقوى وثاق وأمتن حبل يجعل الطالب مطمئنا يشعر بالراحة والسعادة والاطمئنان داخل البيئة المدرسية؛ فالإنسان بطبيعته الفطرية مخلوق عاطفي من الدرجة الأولى له مشاعره وأحاسيسه، فكيف عندما يكون طالبا في مرحلة الطفولة، فهو بلا ريب بحاجة ماسة إلى أبوة حانية داخل البيئة المدرسية من خلالها تشعره بالقرب منه، والتفهم لأحواله، ومراعاة أوضاعه، وإدراك متطلباته.

إنَّ التعليمَ بالحب هو النهج النبوي الذي انتهجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أصحابه، مصرحا بكل وضوح وهو يستخدم هذا الفن الإنساني الراقي، مستخدما أرقى الوسائل والطرق في هذا الأسلوب بما فيها تلك اللمسات الحانية منه تجاه من يعلمه، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده وقال: "يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك" فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك. فقال: "أوصيك يا معاذ؛ لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

فما أروع هذا الموقف التعليمي الذي تجسَّد فيه التعليم بالحب لأول وهلة؛ حيث رقي الأسلوب والحديث، وصدق المشاعر والأحاسيس، ولطف الكلمات والعبارات.

وهذا موقف تعليمي آخر يفيض حبًّا وعطفا من المعلم للمتعلم يطبقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عندما طمحت نفسه في الولاية، فرآه -عليه الصلاة والسلام- ليس أهلا لها؛ لضعفه، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- مخاطبا أبا ذر رضي الله عنه: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمَّرن على اثنين، ولا تولَّين على يتيم".

بل نجد هذا الأسلوب -وهو التعليم بالحب- حيث حُسن التعامل وفن الحوار ومهارة الإقناع يستخدمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى في المواقف التربوية أو السلوكية الخاطئة، كتعامله مع الأعرابي الذي تبوَّل في المسجد، ومع الشاب الذي جاءه يستأذنه في الزنا، وغيرها من المواقف التي لا يمكن أن نعدها.

وحتى نحقِّق هذا الأسلوب داخل البيئة المدرسية، فإنَّ ذلك يستوجب على المعلم أن يستشعر عظم الأمانة الملقاة على كاهله، وعظم الأجر الذي يلقاه من تعليمه أبناءه الطلاب، وأن يكون ذا شعور أبوي تجاه طلابه وقدوة حسنة لهم في جميع أفعاله وأقواله، وعندما يتحقَّق ذلك بلا ريب سيجعل من الطلاب محبين لهذا المعلم، وإذا أحب الطلاب معلما أحبوا مادته الدراسية، وإذا أحبوا مادته رغبوا في دراستها، وأبدعوا فيها بإذن الله.

وعندما يلتمَّس المعلم من طلابه أنهم أحبوا مادته الدراسية، ورغبوا في دراستها من خلال حبهم له وحسن تعاملهم معه، فلابد أن يستثمر هذا الحب ويوظفه قبل أن يفقده؛ وذلك بتجديده وتفننه وتنويعه في عرض المادة العملية، وتوظيف كل وسيلة تعليمية شائقة تخدم مادته الدراسية، واستخدام التعزيز بشقيه المادي والمعنوي لطلابه، واهتمامه بالطلاب ذوي القدرات العليا وتنمية مواهبهم، والطلاب الذين يحتاجون إلى مزيدِ اهتمام ومتابعة، مع التأكيد على ضرورة تطبيق أسلوبه الآسر من عذوبة اللسان وصدق المشاعر وسعة الصدر وحسن الخلق بصدق النية لله تعالى وإخلاص العمل في جميع الأحوال.

وكلُّ ما ذكرناه حول هذا الأسلوب -وهو "التعليم بالحب"- لا يتعارض مع حزم المعلم وقت الحزم، وتطبيق الأنظمة واللوائح في المواقف التعليمية؛ فكلُّ موقف تعليمي يقتضي أسلوبه، بل إنَّ الحزم حب،ٌ وتطبيق اﻷنظمة بما يحقق المصلحة حبٌ، وتلك هي سنة الله في خلقه؛ فالله تعالى من حبه لنا ورحمته بنا أن سنَّ لنا القوانين القرآنية لنهتدي بها فنسعد، وحذرنا من مخالفتها كي لا نشقى ونهلك.

كما أنَّ هذا الأسلوب لا يُمكن أن يُؤتي نتائجه من خلال جهد المعلم فقط، بل لابد من إعادة صياغة كثير مما يتعلق بالمنظومة التعليمية. وختاما؛ فإنَّ الحديث عن هذا الأسلوب التعليمي لن نفيه حقه بهذا الحديث؛ فهو يحتاج نفسا طويلا، وأناسا أكثر دارية وعلما وخبرة... والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك