عندما تحترق المكتبات

سعيد بن عبدالله الدارودي

سمعت كثيراً بتلك الشاعرة ابنة الريف الظفاري المشهورة بلقبها (أن عَق إميه)، الذي يعني باللهجة الشَّحْرية " الطاهرة أبدًا"، لقد توفيت بعد أن بلغت من العُمْر عتيّاً، يحكي الرِّيفيّون أهالي جبال ظفار عن مقدرتها الشِّعرية العجيبة، عن فصاحتها وبلاغتها، عن جودة شعرها وعذوبته، انتقلت المبدعة إلى جوار ربها، غادرتنا وغادرت معها أشعارُها، لتبقى ذكراها عند النّاس باهتة، حيث لم يقم أحدٌ بتجميع إبداعها وتوثيقه، نعم بهتت في الذاكرة الشعبية لأنّ أشعارها لم يعتنِ بها أحد، أيعقل أن تلك الدُّرَر التي كانت تصبغ صورة الشاعرة بأزهى الألوان وأقواها، قد ذهبت بذهابها؟

"الطاهرة دوماً" ليس سوى نموذج تمثلتهُ، وحالة واحدة سردتها لكم، فكم من مُسِنّ حكيم، وكم من مُسن قوَّال، وكم من مُسنٍ راوٍ، وكم من مسنٍ ظريف في حِرْفته، وكم من هؤلاء الذين ذهبوا، فذهبت بذهابهم كنوزٌ وأسرارٌ وإبداعات وذخائر، وحكايات وأساطير وغرائب، وبطولات ومعتقدات، وتاريخ وتواريخ، وماضٍ قد نندم ذات يوم على إهمالنا له.

ومما يبعث على الأسى ويزيد المرارة مرارة أنَّ بعض هؤلاء المسنين ظلَّ يُناشد الإعلاميين والآخرين المُناط بهم الحفاظ على التراث الشعبي، أن يأخذوا منهم ما حوته الذاكرة قبل فوات الأوان، أحد الشيوخ المعمرين كان يقول: تعالوا خذوا ما لدي قبل أن تدركني المنية، فأنا أعرف تاريخ منطقة "البليد" كله، فارقَ المُعمِّرُ الدنيا دون أن نلتفت إليه، ودون أن نتذكره ونتذكر توسلاته عندما نمر بأطلال البليد وأعمدتها الصامتة، فنرمقها بلا مبالاة من زجاج مركباتنا ونحن مُسرعين على الطريق المُعبَّد المحاذي لهذه البلدة التاريخية.

تذكَّرت مُتحسِّراً ذلك المُعَمِّر الذي ترعرع في الصحراء وبلغ من العمر عَتِيّا، يحكي بدو (الحراسيس) بأنّ وفاته كانت في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم ورحل عن دنيانا وهو صحيح العقل والذاكرة، يُحكى عنه أنّه عاصر ثلاثة أجيال، يتكلم النّاس عنه وكأنّهم يتحدثون عن أسطورة: (محمد أقوُلْ) كان كذا وكذا وأخبرَ بكذا وكذا... وغير (أقولْ) كثير من المُسِنِّين الذين لم نلتفت إليهم، لقد تناسيناهم، وأخاف أن نردف تناسينا لهم وهم أحياء بتناسينا لهم وهم أموات، فلا نقوم بجمع ما عَلقَ من أخبارهم وأقوالهم بذاكرة الأبناء والحفدة، وبذاكرة كل من يعرفهم أو يعرف عنهم.

لطالما حلمتُ بجيوش من الباحثين تنطلق من خلال مشروع وطني كبير تنهض به وزارة التراث والثقافة، كنت أتخيَّلهم وهم يعسكرون بكل مناطق السلطنة مُدجَّجين بآلات التوثيق الحديثة.

في هذا العصر صار توثيق المأثورات الشعبية أمراً ممكناً بالصوت والصورة، بل إنه لفي غاية السُهولة والدقة، بعدما تطورت أجهزة التصوير والتسجيل تطوراً كبيراً، فلم تبقَ إشكالية هنا إلا في عدم استشعارنا نحن الأفراد والجماعات والجهات المختصة خطر فقدان تراثنا الوطني.

لقد قال ذات مرة أحد الباحثين صادقاً: "كل شيخ يموت مكتبة تحترق"، وها نحن منذ عقود نشاهد شيوخنا وعجائزنا يفارقوننا ولا نُحرِّك ساكناً، فيا لها من كارثة عندما تحترق المكتبات.

تعليق عبر الفيس بوك