من الرمضاء إلى النار

مريم العدوية

عاد منصور إلى البيت مثقلاً بأعباءِ الحياة التي لا تتوقف، وفي فمه بقايا من الشتائم التي بصقها على السيارات المتجاوزة والمجادلين الذين يقفون له كالشوكة في البلعوم يساومونه على سعر الأُجرة. رمى جسده في أقرب زاوية وما كاد يلتقط أنفاسه إلا وباغتته والدته بذات الأسطوانة المشروخة: "زوجتك الكسولة...البليدة... لم تفعل، وتركت" إلى آخر الديباجات الملعونة التي تطوقه وتُحكم قبضتها على عنقه لتخنقه. يستند على الحائط لفرط ما أكل التعب منه ويجر قدميه باحثاً عن "عُشبة"، يجدها بذات الجلابية التي تتسع لبناتها الثمان معها، ووجهها صامت بارد حدّ الغيظ، يجرها من شعرها ويباغتها بالضربِ وكأنها صنمٌ تُبقي ملامحَها على ما هي عليه وتُكمل غسل الأطباق على ذات الشاكلة دون أن تنظر إلى وجهه.

بالكاد استطاع منصور أن يلتقط بضع لقيمات من الأرز الماسخ والدجاج الشحيح حتى قضت الأيدي الصغيرة المتهافتة على الصحن عن بكرة أبيهِ، يبدو أنّه معتادٌ على الشبع بمجرد تذوق الطعام، لذا ينسحب بهدوء من حلقة المائدة؛ ليمد ظهره لبضع دقائق قبل أن يتوجه مساءً إلى طلب رزقه بسيارة الأُجرة مجدداً. تراقب "عُشبة" أطفالها وهم يلعبون أمام البيت بينما مياه المجاري تلحس أقدامهم وسيقانهم النحيلة. تبقى صامتة مطبقة شفتيها دون أن تُبدي ملامحها أدنى إيماءة، فجأة وكأن السماء انطبقت على الأرض يباغتها صوت خالتها باللعان والسُباب، ودون أن ترخي السمع تستطيع أن تُدرك بأنها متهمة من جديد بالإهمال والكسل وبأنها أسوأ امرأة بل إنها سببٌ لكل مصائب الحياة.

لطالما شعرت بأنها الخطيئة التي تلتصق بهم وتجرهم جميعاً نحو الجحيم.

تذكر جيداً ما حدث عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، حين وجدت نفسها قد انتقلت من تمسيد أقدام خالتها بالماء الساخن والملح إلى أقدام ولدها كذلك، تاركةً دراستها التي كانت تأوي إليها كعالم مختلف كل ما فيه آمن وجميل، ولم تشعر حينها البتة بأنّ شيئاً اختلف في حياتها غير أن بطنها ظل ينتفخ ويدفع بأبنائها الذين وصل عددهم إلى ثلاث عشرة بنتاً وولداً، وحينها فقط تنبهت خالتها، فدفعت لابنها بقلادة ذهبية نظير أن يتخلص من عبء انتفاخ بطنها في كل عام. الآن تشعر بأنّها أخف وهي تنتقل بين غرف البيت الثلاث الصغيرة ولكنها ظلت هي المرأة الغبية والغبية جداً وليس هنالك من صفة أخرى تناسبها.

"عُشبة" التي لا تملك صديقة ولا جارة مُحبة ولا حتى أبناء مخلصين، الجميع يحرقون جذوة محبتها لهم؛ فجاراتها يشعرن بالتقزز من كل ما تجلبه لهن، كما يرمقنها بالاحتقار كلما حاولت أن تكون مثلهن وترتدي شيئاً يناسبها، طفح بها الكيل وهي تُطعم الأفواه وتغسل وتكنس ومن ثم تكبر الأجسام ولا تلتفت لها، باتت تدرك أنّ أبناءها عبيد للقمة واللقمة بيد والدهم وهو الذي يشحن صدورهم غلاً وكراهية لها.

تقفز من سريرها مفزوعة كل ليلة وكأن الأفعى التي تطاردها في كوابيسها قد نالت منها، تستشعر قرصتها الحارقة، والعرق البارد يتصبب من جبينها الذي تضع عليه قناع الخيار بالزبادي ليكون مُشرقاً في الصباح. في تمام الساعة الخامسة تزرعُ وجهها أمام المرآة بالكاد ساعتين تكفيان لتأثيث وجهها بالمساحيق، تختبر كلماتها وابتسامتها التي ستقابل بها كل من ستراه اليوم وهي تمرر البضائع على جهاز المحاسبة. تزرر قميص زي العمل الرسمي بصعوبة بالغة ثم ترفع رأسها وتتذكر كلماته (الواثق يمشي ملكاً)، أقسم لها بأنها جميلة وتستحق أن تكون ملكة، لن تنسى كلماته أبداً وهو يدغدغ أذنيها بهمساته: "أنتِ أجمل امرأة رأيتُها يا جميلة".

بعدما أصبحت "جميلة" تجلس خلف جهاز المحاسبة في مجمع تجاري كبير، باسمها الجديد وهيئتها الجديدة، وبعيداً جداً عن المكان والناس الذين أذاقوها العلقم، تشعر بأن الحياة أخيراً ابتسمت لها، وبأنها حقاً جميلة؛ لذا تقوم بأداء دورها كامرأة سعيدة على نحو مفتعل، فالابتسامة المتأرجحة بين أذنيها لا تغيب، ناهيك عن مشية الطاؤوس المغرور الذي يحسب أنه الأجمل وأن الأضواء والأنظار لا تحيد عنه. استمرت على هذا الحال بضعة أشهر ومن ثم سقطت ثريا أحلامها العريضة من شاهق وارتطمت بواقعها الذي لا يختلف عن السابق إلا في قشرة ظاهرة الزائفة! .

تعليق عبر الفيس بوك