حاتم الطائي
المُتَّأمل للمسار النَّهضوي العُماني خلال الـ 45 عاماً، يُدرك أنّه يقوم على رُؤية، وينطلق من فلسفة، ويستطيع أن يستنتج أنّ هناك حكمةً ساميةً تعهَّدت هذا المسار.. حلمًا وتخطيطًا وتنفيذًا للوصول إلى الأهداف المرجوة على الرغم من الصعاب والتحدِّيات الداخلية والخارجية..
ولا يُمكن فهم مسار النَّهضة في السلطنةِ إلا في السِّياقات الموضوعية التي رسمها لها جلالة السُّلطان المُعظم منذ أولِ يومٍ له في الحكم في الثالثِ والعشرين من يوليو 1970، لتأتي كلمةُ جلالتهِ وهي ترسمُ خارطة طريقٍ، سارت على هديها المسيرةُ لنصل إلى ما وصلنا إليه من إنجاز، حيث قال فيها "وإنِّي أعدكم أوَّل ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يُمكن لجعل الحكومة عصرية".
وهو وعد كان صعبًا جدًا، إذا ما أخذنا في الحسبان أن البداية كانت من الصفر، ولكن وكما يُقال "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، لقد كان جلالته على قدر التَّحدي فكان منه الوفاء بالمضي قدمًا بوعد إنشاء الدولة العصرية الحديثة، في وقت كانت فيه عمان ترزح تحت ثالوث الفقر والجهل والمرض..
ولو تساءلنا كيف تأتى لجلالته تحقيق هذه النَّقلة النوعية، نجد أنّ السِّر يكمن بعد العزيمة الصادقة، في وضع الرؤية وتحديد الهدف، واعتماد المنهجيةِ والوسائل المُلائمةِ لتنفيذ الرؤية على أرض الواقع .. ولأنّ التعليم هو المنهاج الموضوعي، والمعيار اللازم لتحقيق النَّهضة، تمّ الشروع في نشر المدارس وواكب ذلك مسار توعوي موازٍ حول أهمية التعليم، فكان أن أقبل العمانيون على المدارس للنهل من معين العلم والتزود بزاد المعرفة..
وفي سياقٍ مُتناغمٍ مع الاهتمام بغذاء العقول، انصب الاهتمام على صحة الأبدان من خلال إنشاء المستشفيات والتوسع في إقامة المراكز الصحيِّة التي تهيئ سُبل الاستشفاء الحديث من الأمراض..
وتالياً للتنمية البشرية في أجندة بناء الدولة العصرية، كان الالتفات إلى البنى الأساسية لوضع قواعدها في جميع المجالات من طرق ومطارات وموانئ، كل هذا أسهم في تهيئة المناخ العام للحداثة، وتحقيق أولى اشتراطات الانتقال من المرحلة التقليدية إلى الدولة العصرية التي ننعم اليوم بثمارها ونعيش في ظلالها الوارفة..
ورغم أنّ الطريق لم يكن سهلاً، إلا أنّ اعتماد المنهج الاستشرافي أسهم في تحويل ما كان حلمًا إلى واقع، وهنا ثمَّة درس مستفاد ينبغي علينا أن نعيه، ونحن نُخطط للمرحلة المُقبلة حيث لابد من تحديد الهدف والمسار للمسيرة العمانية الواعدة. لأنّه في غياب الهدف لا يمكن أن نحقق شيئاً، وهنا تؤكد الدراسات الحديثة وخاصة المدارس الأمريكية على أهمية تحديد الهدف في مسيرة النجاح، فهو من جهة حافز للنجاح مهما كان هذا الهدف بعيدًا، حيث يدفع إلى العمل بجد وتفانٍ، ومن جهة ثانية فالهدف يُعد بمثابة معيار لقياس النجاح..
وهُناك جزئية أخرى وردت في خطاب جلالته، نحن بحاجة إلى تمثلها في واقعنا لنشحذ طاقتنا للمضي قدماً في مسارنا المُستقبلي، حيث قال جلالته "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنُعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي".. فهذه الرؤية تهدف إلى توحيد الجهود من منطلق أن بناء فريق العمل الوطني يتطلب العمل على قلب رجل واحد، للمضي إلى الأمام استلهاماً لماضٍ عريقٍ واستشرافاً لغدٍ مُشرق..
ولقد ركَّزت الكلمةُ الساميِّةُ على أهمية استعادة أمجاد عُمان عبر التَّاريخ، ومن هُنا تأتي أهمية الوعي بهذه الأمجاد أولاً، ودراستها تالياً من خلال معرفة التَّاريخ العُماني بمراحله وأطواره المُختلفة لأسبابٍ عدِّة منها أنّ في هذه المعرفة حافز لتلمس خطى الأجداد على طريق المجد، واستدعاء أمجادهم في المجالات كافة، حيث إنّهم كانوا سادة البحار، وبناة إمبراطوريات، وحملة رسالة سامية جوهرها نشر السلام والتسامح على مدى التاريخ. كما كان لهم نصيبٌ وافرٌ من العلم والاستنارة، وإليهم يرجع الفضل في الكثير من فروع العلوم.
ويستلزم استنادنا إلى هذا الإرث الحضاري القيِّم، التوازن بين المعاصرة والأصالة بعيدًا عن القفزات غير المحسوبة وإنّما اتِّباع أسلوب التدرُّج الذي حافظت عليه التجربة العُمانية على مراحلها المختلفة خلال العقود الأخيرة، إضافة إلى أهمية الاقتداء بالنقاط المُضيئةِ في تاريخنا العريق.
إنّ معرفة الماضي ليس لذاته، بل ليكون حافزًا نحو المزيد من التقدم، وولوج المُستقبل المُشرق من أوسع أبوابه.