الزمن يسخر من فروق التوقيت

رحاب أبو هوشر

زمن يهدر مثل شلال أبدي، لا موتنا الكثير يزجره، ولا رغبتنا بالفرح تؤجله، والصخور لا توقف جريانه، أو تحد من التقاء ماضيه بحاضره، ولا بالمستقبل إذ يتداخل في المنعطفات. وذاكرتنا ليست الماضي وحسب، إنها اللحظة الحاضرة تذوي فور انبثاقها، فتسقط في وعاء التجميع الخلفي، لتصبح مساحة مستعادة في التذكر. هي الكلمة تخرج من أفواهنا، فلا يمكننا محوها، أو منع الآخرين من تذكرها، أو استبدالها بلا أثر.

بثقة العارف، يمكننا أن نضيء شمعة اليقين في زمن استقر ونال منه الثبات، فلا يمكن أن نكون واثقين أو عارفين ومطمئنين لما نعرف، إلا مع الماضي، باكتمال فعله وانغلاق دائرته، ووصوله للنهايات. الماضي هو الزمن الأكيد في الذاكرة الذي نجالسه بألفة، دون توجس أو تحفظ مشوب بالخوف، وتكر فيه حكاياتنا مستريحة من ترقب احتمالات النهاية.

نعرفه جيدا، في عينيه الكسلى عن تجوال البصر، وانغلاق الأبواب على حركته، وفي افتراقه عن حاضر لا زال يركض في طريق، لا ندري فيه أين المستقر، وعن مستقبل هو النبع الذي نحشد له عتادنا، إن كان ثمة عتاد، ولا نعلم إن كنا سنلحق بعرباته، أم أنه سيمضي دون أن ينتبه لسقوطنا قبل الوصول!

لا يحضر الماضي إلا وينزف الحنين، كأنهما توأمان. عندما تتجمد الصور والمشاهد في زمنها القصي، يظل حفيفها غاف في قلوبنا، نستدعيه فتحضر الأحاسيس والرعشات في طياته طازجة كأنها ابنة الحاضر، والرائحة التي أدارت رؤوسنا ذات يوم، تنتشر في أفق اللحظة الراهنة، وتحملنا في هوائها مثل ريشة، إلى هناك، إلى ذلك الزمن الذي انقضى.

ما من أحد مضى قُدُماً متحررا منه، فوثاق الماضي يشدنا إلى بيت قديم، نشرع نوافذه، وتورق في جدرانه أشجار الذاكرة، حتى الألم والعذاب يستعيد صوته الخشن، ونقلب في أنظارنا في الزوايا، ويداهمنا سيل التفاصيل، لكن سدود الذاكرة الماكرة تمارس دورها. تنظف الورد من شوكه القاسي، وتصطفيه ذخيرة لأحاديث السمر، نهدهد بها حاضرا تنغرس أظافره في حناجرنا، حتى نكاد نفقد أصواتنا وأرواحنا أيضا.

عقارب الساعة تضرب الوقت بسياطها، وتئن تحتها الدقائق والثواني، أنينا لا يثنيها عن الجريان. دقاتها تتقدم بتصميم وعزم، مكتفية بإرادة الزمن، لا تلتفت ولا تتردد، ولا تبطئ في السير نحو غايتها، ولا تأخذها رأفة برجاء. صور الدقائق، روائحها، وأصواتها المفقودة، تدوسها كلها أقدام الزمن العمياء، وتصير أطيافا على جبل بعيد. وبين ماض انفصلنا عنه، مثل حبل سري انقطع، وماض يلهث في الأنفاس بين رشفات قهوة حارة، يركض الزمن في الشرايين. إنه دفقة الدم تسيل في نسيج الجسد الحي.

في المساحة البيضاء لشاشة أو ورقة، زمن مطلق ينفتح على الأزمان. نكتب متكئين على ذخيرة الماضي. صور التقطتها الذاكرة في لحظات انقضت، وأفكار قفزت عن سياج الكمون. نكتب فنستحضر اكتنازات الذاكرة من الخبرات والتجارب، ثم نرخي لها عنان الأزمان. الكلمات والأفكار سهام نخرجها من جعبة الماضي، نصوبها باتجاه المستقبل بما تهجس به الأحلام.

ونأتي إلى الدنيا صفحة فارغة، بيضاء، فيرسم الزمن علينا خطوطه، غير عابئ بمشيئتنا، وفي منتصف الطريق، نصحو من غفلتنا، فيفاجئنا صف طويل من شجر محترق خلفنا، وفي المدى مسافة غامضة لا تفصح مهما راودناها.

في نهر الزمن تتشكل الحيوات، وتنفرد بملامحها، نصبح الكتب الذي يثوي فيها التاريخ والمعنى، وعندما نخرج من الزمن، لا نكون إلا ذاكرة استعادت بياضها، وانقطعت عن فعل الحياة.

يحبس من أدركه طيف النهاية أنفاسه، بين صفري الحياة والموت، وهو يراقب العدو الرابض في الساعة، بفجيعة غزال في ركضه الواهن، أمام المخالب المفترسة. يصب المخذول جزعه في إيقاع العقرب المنضبط، محاولا العثور على خلل، كان سبب الجنون في دوران العقرب. يغالب اليأس في هدنة يراوغ بها الزمن، لعله يرجع قليلا إلى الوراء. من يعيد له زمنه المسكوب، من يعيد العقارب إلى بؤرتها الأولى؟ على أن هذا الجنون يتبدد، وتحل بخطوة الزمن رصانة في الانتظار. تتحرك العقارب ببطء ثقيل، والزمن يطول، وأحيانا يتجمد في مكانه. تتكاثف اللحظات مثل رمل، داخل وقت مشحون بالانتظار.

ساعات حول المعاصم، على شاشات الهواتف وجدران المنازل والمكاتب، وفي الشوارع ساعات ضخمة. تحيطنا مرايا الزمن، تقتحم لحظاتنا وتفاصيلنا اليومية، مشغولة بقياس الوقت، ومحاولة ضبط إيقاعه واستثماره. ونحن المأخوذون بإقامة جبرية بين الجدران الرقمية، نسينا لفرط المرايا، أن الزمن هو الزمن، وسيبقى يجري في نهره، نحو مصبه الوحيد. ونسينا أيضا أنه لا يعتد بفروق التوقيت على الأرض، أو بمواقيت الشتاء والصيف.

تعليق عبر الفيس بوك