الدين والعلم ودائرة التعارض بينهما (1-2)

بدر العبري

بداية؛ نتطرق إلى لفظتي الدين والعلم. أما العلم فلا إشكال حوله، وإنما الإشكالية حول مفهوم الدين؛ لأنَّ الدين بمفهومه العام لا يقتصر على الأديان السماوية، كما أنه لا يقتصر على الدين الإسلامي، فهو لغة كما جاء في مختار الصحاح مادة دين: "والدِّينُ أيضا الطاعة، تقول دَانَ له يدين دِيناً أي أطاعه، ومنه الدِّينُ، والجمع الأَدْيَانُ، ويقال دَانَ بكذا دِيَانَةً فهو دَيِّنٌ، وتَدَيَّنَ به فهو مُتَدَيِّنٌ، ودَيَّنَهُ تَدْيِيناً وكله إلى دينه"؛ فالدين طاعة لفكر يُستلهم من مصادر مختلفة قد تتفق معها أو تختلف يبقى دينا بمعنى الطاعة والانقياد لهذا الفكر. وهذا قدر مشترك بين المؤرخين ودارسي الأديان والمتكلمين والفلاسفة، جاء مثلا في معجم "لاروس" للقرن العشرين: "إنّ الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية... وإنَّ الاهتمامَ بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية... إنّ هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد".

ولهذا؛ كانت هناك أديان سماوية وأديان وضعية، وهم أكثر أهل الأرض؛ فهذا بالمعنى الغريزي، وهو ما يقابله بالمعنى اللغوي؛ ومنها الدين بمعنى الحق أي الموافق للفطرة التي أرادها الله تعالى حيث يقول: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ".

وهذا لا يمنع أن تسمى الأحزاب والملل الأخرى دينا وإن عبدوا الأوثان؛ لذا سمى الله ما عليه المشركون وهم كُثر إبان البعثة المحمدية دينا حيث قال: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، ولم يكن دينهم على الفطرة، فقد كانوا يعبدون الأوثان من دون الله سبحانه وتعالى.

وعليه؛ فإنه حتى التيارات والأحزاب التي تتبرأ ظاهرا من الأديان السماوية هي في ذاتها دين؛ لأنها تتشكل في توجه وفلسفة معينة حول الكون والاجتماع.

وإذا تقربنا قليلا من الدين الإسلامي، فهو وإن سمي دينا في الجملة إلا أنه لغة ينقسم إلى أديان سميت مدارس أو مذاهب، والحد المشترك بين المذاهب الإسلامية هو العقل والقرآن، وبعض العمل في الشعائر التعبدية، مع أنّ بعض المدارس الأخرى كان لها طقوسها الخاصة كالدروز والنصيرية، إلا أن جملة المدارس الإسلامية تشترك في الطقوس التعبدية وأكثر جوانب الفقه الأسري والمجتمعي والمعاملاتي والجنائي.

هذه المدارس لم تخلُ من غزو روائي توراتي، ألصق بالقرآن الكريم تحت مظلة التفسير، وذلك لحبّ معرفة المجهول، حيث إنّ اليهود والنصارى والفلسفات الأخرى تقدموا زمنا في تحليل بعض الشخصيات والأحداث التأريخية إما للمعاصرة، وإما للرواية. وعليه، فعندما التصق المسلمون الأوائل بهؤلاء، أو من الذين دخل الإسلام منهم ككعب الأحبار ت (34هـ)، وعبد الله بن سلام ت (43هـ) وهما من أصل يهودي.

وهذه الروايات التوراتية لإضفاء الشرعية عليها أضيفت إلى الرسول الأكرم (ص)، ومنها ما أضيفت إلى المتقدمين كالصحابة والتابعين، أو تحت مظلة السلف أو آل البيت.

بيد أننا نجد النص القرآني يحذر من التسليم لثلاثة أمور:

- الأمر الأول: موروث أهل الكتاب وانتشار التحريف بينهم؛ حيث قال سبحانه: "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ".

- الأمر الثاني: التقليد والاستسلام للفكر الموروث؛ حيث قال سبحانه: "أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ".

- الأمر الثالث: عدم التأكد من صحة الخبر، حسب الآلة المتاحة، يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".

وفي المقابل، أمر الله سبحانه وتعالى بإعمال العقل والتدبر في مئات الآيات؛ فمثلا عبارة "أفلا تعقلون" تكرَّرت ثلاث عشرة مرة، وعبارة "لعلكم تعقلون" تكررت ثماني مرات، وعبارة "لا يعقلون" تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة "لقوم يعقلون" تكررت ثماني مرات، وعبارة "إن كنتم تعقلون" تكررت مرتين، وعبارتا "ما عقلوه" و"نعقل" تكررت مرة واحدة، وعبارة "يعقلون" و"تعقلون" تكررت مرتين، وهكذا دواليك.

كذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالسير في الأرض، باطنا وفضاء، لكشف أسرارها، وتسخير سننها؛ حث قال: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". وقال: "وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ".

بجانب أنّه أمر بالتفكر في الكون؛ حيث قال سبحانه: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".

بل حتى الآيات القرآنية ذاتها مع يسرها وسهولتها أمر الله سبحانه وتعالى بالتدبر فيها، قال سبحانه: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا".

خلاصة ما تقدّم أنَّ القرآن يدعو إلى التأمل والنظر والتدبر، وكلها ستنصب في النهاية في اليقين بجود الله سبحانه وتعالى: "سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"، وفي الحلقة القادمة سنواصل ما يتعلق بالموضوع.

تعليق عبر الفيس بوك