"النووي الإيراني" في تسريبات ويكيليكس

زاهر المحروقي

من التعليقات التي وصلتني حول مقال سابق لي بعنوان "أين المشروع العربي؟"، كتب لي أحد الإخوة أن العداء العربي لإيران ليس كله مذهبيًّا وليس كله نابعاً من الداخل؛ إذ إنَّ إيران كانت شيعية من قرون، وكذلك كانت أيام الشاه، ولكن موقف الثورة الإيرانية من أمريكا والغرب انعكس على موقف الغرب منها، وبالتالي فإنّ موقف بعض العرب من إيران يعكس في أساسه المواقف الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، أي أنَّ العرب اتبعوا تلك المواقف تبع البهيمة دون بصر ولا بصيرة، وعندما اقتضت مصلحة أمريكا خلاف ذلك أصبح البعض عاجزاً عن التراجع أو إدراك حقائق الأمور، وهذا رأي لا يخلو من الحقيقة.

لقد شكل موقع ويكيليكس ما يشبه قنبلة عندما بدأ في نشر مقتطفات من الوثائق المهمة لمراسلات السفارات الأمريكية في الخارج مع واشنطن، وهي الخطوة التي وُصفت بأنها تحد واضح للحكومة الأمريكية؛ ويبدو جليًّا من الوثائق التي تم نشرها أنّ قضية الملف النووي الإيراني كانت تشغل -ولا تزال- الدول الغربية والعربية معاً، وأنّ من يفرض نفسه على الساحة هو الذي ينال الاعتراف والاحترام الدوليين، وهذا ما فعلته إيران، رغم أنّ هناك ممن يُحبّون تبسيط الأمور يردِّدون دائماً أنّ هناك اتفاقاً بين أمريكا وإيران، وكأنّ الذي يحدث هو مجرد مسرحية فقط، فيما نجد أنّ هؤلاء أنفسهم ينسون العلاقات العربية الأمريكية الرسمية والمعلنة، التي تصل غالباً إلى حدِّ التبعية، ممّا يذكِّرني بقول الزميل الراحل مبارك السناني، عندما كان يردد دائماً أنّ بعض الحكام العرب ليسوا إلا وكلاء فقط لمصالح الدول الكبرى.

... إنَّ الذي يدرس ما نُشر من المراسلات العربية والأمريكية يستطيع أن يكوِّن فكرة تامة عن صمود الموقف الإيراني لدرجة أن تكون هناك أكثر من توصية بضرورة إجراء مفاوضات مع إيران، ثم يستطيع القارئ أن يكوِّن فكرة أيضاً عن تصرف الدول العربية تجاه هذا الملف.

لقد سرَّب موقع ويكيليكس، يوم 21/10/2015، ست وثائق قيل إنها محتوى البريد الإلكتروني الخاص بـ "جون برينان" مدير الاستخبارات الأمريكية (سي.آي.إيه)، ويعود تاريخها لعامَيْ 2007- 2008، قيل إنه تم الحصول عليها من قبل طالب في مرحلة الثانوية اخترق حساب "برينان"، احتجاجاً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتضامناً مع الفلسطينيين الذين يُقتلون يومياً في فلسطين؛ وتضمنت هذه الوثائق توصية بشأن السياسة التي يجب على الرئيس القادم للبيت الأبيض بُعيد انتخابات عام 2008، اتباعها حيال إيران، حيث أوصى بأن تكون سياسته "براجماتية" قائمة على "الجزاء والعقاب"، وشددت الملاحظة على ضرورة "تحاور الولايات المتحدة الأمريكية مع الموجودين بالسلطة في طهران، ولا خيار ثانياً لها"، واقترح برينان في وثيقة تحمل عنوان "المعضلة الإيرانية"، مواصلة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول المحادثات مع إيران، كما اقترح في الوثيقة أسماء أخرى لنفس الغرض، مثل آل جور نائب الرئيس الأمريكي، ومادلين أولبريت وزيرة الخارجية، إضافة إلى توني ليك مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق بيل كلينتون، وبرينت سكوكروفت مستشار الأمن القومي للرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الابن.

وكانت أبرز التسريبات التي تناقلتها عدة صحف عالمية مثل "نيويورك تايمز" و"الجارديان" حول الموقف الخليجي من الملف النووي الإيراني، هو أنّ زعماء عرب بينهم العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز حثوا الولايات المتحدة على وقف البرنامج النووي الإيراني بأيِّ وسيلة بما في ذلك القوة العسكرية، ونشرت "الجارديان" نقلاً عن إحدى الوثائق أنّ عادل الجبير السفير السعودي لدى أمريكا (وزير الخارجية السعودي حاليا) قال إنّ العاهل السعودي "يدعو الولايات المتحدة إلى مهاجمة إيران لوقف برنامجها النووي"، وذكرت الوثيقة أيضاً أنَّ العاهل السعودي نصح الأمريكيين بـ"قطع رأس الأفعى"، وشدد على أنّ العمل مع الولايات المتحدة لمواجهة التأثير الإيراني في العراق هو أولوية إستراتيجية للسعودية؛ فيما أوردت الصحيفة نفسها وثيقة تشير إلى أنّ الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين أكد في الأول من نوفمبر 2009، خلال استقباله الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس أنه يجب وقف البرنامج النووي الإيراني، وأنّ "خطر تركه، يفوق خطر وقفه"؛ أما الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، فقد وصف العلاقة بين بلاده وإيران خلال لقائه دانيال بونينان مساعد وزير الطاقة الأمريكي في العاشر من ديسمبر 2009، "إنهم يكذبون علينا ونحن نكذب عليهم"؛ أما إحدى البرقيات التي تم نشرها وهي عبارة عن برقية كتبها دبلوماسيٌ أمريكيٌ من القاهرة في فبراير 2009، فتذكر أنّ الرئيس المصري حسني مبارك "يكن كرهاً شديداً للجمهورية الإسلامية"؛ فيما كشفت وثيقة نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية أنّ إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة في ديسمبر 2009، أنّ إستراتيجية أمريكا للتفاوض مع إيران "لن تنجح". لقد كشفت التسريبات المنشورة عبر ويكيليكس العديد من الأمور وأزاحت السرية عن كواليس السياسات العالمية وكيف تدار الدول، ممَّا أتاح للدارسين والمهتمين أن يقدموا دراساتهم وأبحاثهم حول العديد من القضايا العالمية. وفي مقالي هذا، فإنَّ النقطة البارزة في هذه التسريبات هي أنَّ العالم لا يحترم إلا القوي الذي يفرض نفسه، وأنّ الدول العربية -رغم تغير الظروف- ظلت تنتظر فقط من أمريكا أن تأتي لتخلصها من إيران، كما فعلت هذه الدول من قبل مع العراق، وتفعل الآن مع سوريا وفي اليمن، حيث اختلط على هذه الدول الكراهية الشخصية لشخص الحاكم ومع الوطن؛ فما حصل للعراق لم يكن إزاحة رجل واحد هو صدام حسين، بل كان تدميراً شاملاً للعراق، وما يحصل في سوريا الآن ليس المقصود به شخص واحد هو بشار الأسد، وإنما الذي حصل هو تدمير للدولة السورية التي لم تشكل أيَّ خطر على أحد، وإنما ظلت ثابتة متمسكة بمبادئها، مما يعيد سؤالاً طرح كثيراً؛ لمصلحة من يعمل هؤلاء؟ ولمصلحة من تعمل هذه الدول؟

إنَّ الدارس للتوجهات الخليجية من الملف النووي الإيراني، يستطيع أن يقدِّر تماماً مدى الصدمة التي أصابت الأشقاء في الخليج، بعدما تم نشر رعاية عُمان للمفاوضات الأمريكية الإيرانية في السلطنة بهدف إنهاء الملف النووي الإيراني سلمياً، وهي خطوة كان يجب أن يستقبلها الكلّ بالترحاب، فيكفي هدر الأموال في حروب عبثية في المنطقة، التي فقدت الاستقرار، ومع ذلك فإنّ الدول الخليجية التي أيّدت العراق في حرب عبثية أخرى ضد إيران استمرت ثمانية أعوام، لم تستفد من تلك التجربة، وكأنّ قدر المنطقة أن تنتقل من حرب إلى أخرى دون هدف واضح، وإنما تنفيذاً وتحقيقاً لرغبة الآخرين الذين يحددون لهذه الدول من يجب عليها أن تصادقه ومن يجب عليها أن تعاديه.لقد اتفقت المصالح العربية والإسرائيلية حول الملف النووي الإيراني -وهي المصالح التي تتوافق الآن في كلِّ الملفات- إذ سارعت إسرائيل إلى وصف الاتفاق النووي الإيراني الغربي بـ"الخطأ التاريخي"، وقال بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية: "ستتلقى إيران مئات مليارات الدولارات التي ستستطيع من خلالها تزويد آلتها الإرهابية بالوقود"، أما وزير دفاعه موشيه يعالون، فقد وصف الاتفاق "بالمأساة لجميع من يتطلع إلى الاستقرار الإقليمي ويخشى من إيران نووية"، فيما نقلت وكالة رويترز عن مسؤول سعودي القول: "سيكون يوماً سعيداً للمنطقة إذا منع الاتفاق طهران من امتلاك ترسانة نووية، لكنه سيكون سيئاً إذا سمح لطهران بأن تعيث في المنطقة فساداً"، وأضاف: إنّ "إيران زعزعت استقرار المنطقة كلها بأنشطتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن"، مشددا بأنه "إذا منح الاتفاق تنازلات لإيران، فإنّ المنطقة ستصبح أكثر خطورة".

... إنَّ برنامج إيران النووي ليس جديداً، فقد تم إطلاقه في فترة خمسينيات القرن الماضي بمساعدة من الولايات المتحدة نفسها وبعض الحكومات الغربية، إلى أن قامت الثورة الإيرانية عام 1979، فتوقف البرنامج، إلا أنه استؤنف بتوسع كبير بعد الحرب العراقية الإيرانية، إذ شمل البرنامج عدة مواقع بحث، ويُعتبر مفاعل بوشهر أول محطة للطاقة النووية في إيران، وقد اكتمل بمساعدة كبيرة قدمتها وكالة روساتوم الروسية الحكومية، والذي افتتح رسمياً في 12 سبتمبر 2011.

وفي النهاية، نقول هناك قاعدة مهمة وهي أنه على ضوء ثقل الدول وحجمها تتحدد مكانة هذه الدول، ومن يأخذ بالأسباب الحقيقية لأيِّ نجاح فإنه حتماً سينجح، وهذه هي سنة الله في خلقه وفي الكون.

تعليق عبر الفيس بوك