رواية يجب أن تدرَّس في كل مدرسة

ليلى البلوشي

في جزيرة إندونيسية تدعى بيليتونج، وتحت صهد الشمس، ينتظر تسعة تلاميذ مع آبائهم الفلاحين وصيادي سمك، مع أمهاتهم الأميات ربيات البيوت، مع معلميهم الوحيدين هرفان وبو مُس وهما بكامل توترهما، كان قد وصل حد انتظارهم حتى ساعة الضحى الحادية عشرة، وبدا أن رهبة الانتظار الطويل تبعته خيبة مريرة غزت أعضاؤهم؛ فالمسألة هي انتظارهم للتلميذ رقم عشرة الذي ينقذهم من إغلاق أهم وأقدم مدرسة إندونيسية في تلك الجزيرة العامرة بخيرات الطبيعة رغم ذلك تعاني من فقر مدقع بسبب الرأسمالية المتوحشة، لكن المدرسة تبقى مفتوحة في وجه المستبدين بفضل التلميذ رقم عشرة الذي يصل في الدقيقة الأخيرة ويكون المنقذ!

المدرسة المحمدية هي مدرسة الفقراء في جزيرة يعاني أهلها من الفقر المدقع، كان أبناؤهم يعملون وهم في سن صغيرة في مهن شتى لإعالة عائلاتهم؛ لذا عزف الجميع عن دخول هذه المدرسة إلا هؤلاء التلاميذ التسعة يدفعهم التحدي وكان شرط المفتش الرأسمالي أن يكون عدد الطلاب عشرة حتى لا يغلق المدرسة المهدمة على رؤوسهم وإلى الأبد.

كان وجود هذه المدرسة كفاحا، كفاحا حقيقيا يوم بناه المعلم هرفان بيده من خشب الجزيرة، بنى هذه المدرسة بعزم ومحبة ولغاية واحدة لم يحد عنها حتى وفاته هي نشر المعرفة والعلم بين أطفال جزيرة بيليتونج، لقد عمل دؤوبا حتى ساعات احتضاره كثوري حقيقي، وكانت المعلمة الشابة التي أكملت تعليمها الثانوي بو مُس والتي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر تسانده بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة، والطفل آكال راوي هذه الرواية شهد مدى الصعوبات التي واجهتم مع معلمتهم بو مُس في ظل مجتمع مادي، لكن على الرغم من تلك المصائب المتوالية من أصحاب الأطماع ظلت المعلمة قوية ووفت بوعدها لتعليمهم حتى النهاية، وبفضل جهودها الجبارة كانت هذه الرواية الملهمة؛ فالطفل آكال أحد تلامذتها كان قد قطع وعدا على نفسه للكتابة عنها حين يملك ميزة الكتابة الجيدة؛ ليعرف العالم نموذجا حيا لمعلمة كـ"بو مُس" حكاية كفاح ومقاومة كبيرة.

لقد فعلها أندريا هيراتا في رواية "عساكر قوس قزح"، أو كما لقبتهم بو مُس بلكنتها بيليتونجية لاسكار بلانجي بيع منها خمسة ملايين نسخة في أندونيسيا حين صدورها وترجمت إلى عشرات اللغات منها العربية، هذه الرواية الملهمة حقا لكل طالب ولكل معلم ولكل هيئة تعليمية، لقد كانت بو مُس أيقونة الأمل والمقاومة.

في جزيرة طافحة بالموارد الطبيعية التي لم ينتفع منها السكان الأصليون؛ لأن الشركات الهولندية القوة الاستعمارية المسيطرة هي وحدها من كانت تبتلع الخيرات، لذا كانت الجزيرة تعاني من الطبقية، حيث سكانها الفقراء المنسيون، وحيث أصحاب الشركات وأبنائهم الذين كانت لهم ملكية بنيت بيوتها كقصور فيكتورية، وكانت مدارسهم معدة بفخامة لا تقل عن قصورهم، من كان سيصدق بوجودها في جزيرة كجزيرة بيليتونج..؟!

وكانت لافتة "لا يسمح لمن لا شأن لهم بالاقتراب" مرفوعة كصفعة في وجوه سكان الجزيرة المعدمين.. كانت الملكية معلما من معالم بيليتونج وقد بنيت لتكفل استمرارية حلم الانتشار الاستعماري المظلم هدفها منح السلطة لقلة من الناس مقابل قمع العديد وتعليم القلة فقط لضمن انصياع الآخرين.

كانت المدرسة المحمدية تسير على نهج التعليم الديني، ومن يسمع ذلك يعتقد بوجود تطرف من نوع ما، لكن المعلمان هرفان وبو مُس كانا يؤمنان بأن الدين هو خُلق يلتزم به الإنسان تجاه نفسه أولا، لقد كان الدين بالنسبة لهما هي الأخلاق والأمانة والتعليم الجيد؛ لذا لقد ورث طلابهم العشرة عنهم ذلك.

كان بإمكان "بو مُس" أن تقبل بالعروض التي وصلتها من شركات هولندية بتعويضها عن المدرسة المحمدية المتهالكة، والتي وجدوا في أرضها نسبة كبيرة من اليورانيوم بالمبلغ الذي تحدده وكان بإمكانها أن تعمل كبقية زملائها في مدرسة فاخرة تابعة لأرض الملكية وتتقاضى مثلهم راتبا باهظا، لكنها رفضت كل تلك العروض، فقد أبت أن تفرط بالأمانة، بالمدرسة المحمدية التي أصبحت هي وحدها مسؤولة عن استمرارها، كانت أنموذجا عن المعلم الذي يترفع عن أهوائه ومصالحه الشخصية.

وإذا أردنا التحدث عن شخصيات الرواية، الأطفال العشرة، الذين أطلقت عليهم بو مُس لقب "عساكر قوس قزح"؛ فقد عايشوا كل الصعاب الدراسية، واستطاعوا -بعزيمة- الفوز بجائزتين في الفنون الاستعراضية وأخرى في مجال التفوق الأكاديمي رغم مواردهم المعدومة، الأطفال الذين كان لكل واحد منهم أحلامه، وظلوا أعواما يسعون لتحقيق تلك الأحلام، ولعل أبرزهم الراوي الطفل آكال الذي حلم يوما أن يكون كاتبا، لكن أشد التجارب وأوجعها كانت تجربة الطفل لينتانج الذي أتقن الكتابة جيدا في الصف الثاني وكان أذكى التلاميذ، الذي كان على متن دراجته القديمة يقطع أكثر من 40 كم يوميا في طريقه من وإلى المدرسة، الذي كان مضطرا حتى في أحلك الأوقات على المخاطرة بحياته حين يعبر نهر يسبح فيه كثير من التماسيح؛ كي لا يفوت حصصه الدراسية، الذي باع خاتم زواج أمه حتى يصلح سلسلة دراجته التي كانت تتعطل باستمرار، الذي فاز عن جدارة بجائزة الاستحقاق الأكاديمي، فقد كان عالما في الرياضيات والفيزياء، الذي ترك المدرسة بعد أن مات والده المعيل الوحيد لأسرة فقيرة يفوق عدد أفردها أربعة عشر فردا ومعظهم من الأجداد والفتيات الصغيرات، كان الطفل لينتانج مثالا صادما عن كيف يمكن للفقر أن يهدم أهم الطاقات الإنسانية عند الأطفال ويهدرها في غمضة عين، كان يمكن جدا أن يكون عالما في الرياضيات أو الفيزياء وظل هذا الحلم يراود قلب الفتى الصغير، لكن الحياة القاسية كانت أقوى وحطمت آماله!

اقرأوا هذه الرواية، اقرأوها لأبنائكم وطلابكم، فهي تجربة مثابرة في دروب التعليم وطريق إلى تحقيق الأحلام في عالم متهالك.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك