عن دول المؤسسات

جمال القيسي

الدولة الحقيقية هي دولة القانون والمؤسسات، لا دولة المحسوبيات والمعارف والأقربين والمؤلفة قلوبهم. وفي علم السياسة ومقاييس الدول الديمقراطية، لا قيمة أبدًا، لأسماء الوزراء، أو الأعيان، أو البرلمانيين (وهم هناك منتخبون ديمقراطيًا)؛ لا قيمة لهذه الأسماء إلا بمقدار ما يؤدي صاحب المنصب العام من واجبات وطنية، وتنفيذ برامج خدمية للمجتمع، لا خدمات شللية نفعوية، بعيدة النظر الانتهازي للتمسك بالمقعد أبد الدهر، ولكن في تلك الدول يعتد بالأسماء في تلك المناصب العامة حين تحين ساعة المحاسبة، إذ يتحمل المذنب وزر خطأ، أو حتى إهمال مهما كان عادياً في الدول الكرتونية، ودون إمكانية الاختباء خلف اسم آخر أو ظهر قوي، أو إمكانية تحميل سواه وزر ما جنت يداه. هناك لا يوجد في قاموس الدول عبارة مقيتة تقول (لن يُحاسب لأنّه محسوب على فلان) لأنّ فلاناً هذا غير موجود إلا في الدول الكرتونية التي لا سبيل لخروجها من هشاشة عظام البقاء، وتصليب أركانها بغير ترياق الديمقراطية.

ولأنّ الدولة الجادة لا تنهض بغير مؤسساتها، فإنّ من واجبات الدولة أيضاً حماية هذه المؤسسات بإتاحة الفرصة لها لتقديم كل ما لديها بما يخدم المواطنين، الأمر الذي يصب في المصلحة العامة لبقاء الدولة، وديمومة اخضرار شجرة الحياة ودورتها في أوردتها.

صحيفة الدستور في الأردن، وما تعانيه من كارثة عدم القدرة على دفع راتب موظفيها منذ قرابة العام، هي المثال الواضح في التعاطي مع ملفها، وما يدور من أنباء على أنّه يدار بمحسوبية ومشيخة ونفوذ ومصالح شخصية تتحكم بكيان مؤسسة إعلامية راسخة، ذات تاريخ وسيرة ومسيرة،لا يُقلل من شأنها أي منصف؛ وللتذكير، فقد تخرج من صحيفة الدستور غالبية الإعلاميين الأردنيين، كونها الصحيفة الغراء الأم، وكذلك بحكم حرفيتها التي استقطبت هؤلاء الإعلاميين حتى بعد ميلاد صحف يومية أخرى، تتفوق على الدستور بميزانياتها، ومزايا الموظفين فيها.

وصحيفة الدستور، كذلك، هي المؤسسة الإعلامية الأردنية الراسخة في ذهن القارئ العربي، والصحيفة العامة والنخبوية التي أشير إليها ببنان التقدير في محافل عربية ودولية على مدار مسيرة الصحيفة الضاربة في عقود العطاء، وما يزال بناة الصحيفة، بوجه خاص، والإعلاميون الأردنيون عمومًا، حاضرين في وجدان الصحفيين العرب والمؤسسات الإعلامية والصحفية العربية، حيث أسس هؤلاء منابر إعلامية لافتة وناجحة احتلت مكانتها المرموقة اليوم في كثير من دول الخليج، والمهجر.

الدولة لا يُمكن لها التخلي عن مؤسسة. والمقصود، هنا، كل دولة حريصة على تماسك صورتها القانونية والسياسية والوطنية، كما أنّ المؤسسة المقصودة، هنا، تعني كل مؤسسة دستورية، ملتزمة بالخط الوطني، والهم العام، وتضع نفسها في خدمة المواطن بمفهومه الإنساني، والدولة بمفهومها السياسي والتاريخي.

من المؤسف جداً، والماس بالكرامة، الإشارة والتذكير في كل حديث عن أزمة صحيفة الدستور، إلى أعداد أسر وعائلات الموظفين التي تعاني الأمرين بسبب الأزمة، كذلك من المؤسف جداً، التعرض لكرامة الصحفي بتكرار القول إنّ أزمة صحيفته ألقت به إلى الشارع، وألجأت أولاده إلى ما هو أشد: (خيبة الأبناء من زمن خذل الآباء).

أين الخلل وعن من التخلي؟ عن المؤسسة وجهازها الإداري أم عن الطاقات الإبداعية المهنية والاحترافية؟ صحيفة الدستور بخير عميم من حيث الكفاءات، وخريجوها يتبوأون أعلى المناصب في المؤسسات النظيرة في الدول الخليجية وغيرها، وأسماء هؤلاء يعرفها الجميع. لكن من المغضب أن نقابل بالفخر إبداعات أبنائنا، وهجرة عقولهم وأرواحهم، ونعلن للملأ كل حين بأن الكثير من الفضائيات والصحف الأكثر حضورًا ونجاحاً وشهرة في العالم تقوم على أكتاف وأقلام الأردنيين المبدعين. أي فخر هذا؟

أليس الأولى بالبلاد استعادة وتحرير هذه الإبداعات المُهجّرة؟

لكن حين يتحقق هذا الحلم؛ علينا حينها ألا نلقي عليهم دروسا في الموعظة الوطنية، لأنّ عودتهم، بحد ذاتها، مدرسة وطنية لا يمكن أن يخطئ الجيل الجديد فهم سياقاتها حين يقرر هذا الجيل: الوطن أم الخارج؟ فيلتزم بواجب المرابطة في الوطن، بحلوه ومرّه. إن هي إلا أضغاث أحلام أدري.

الحديث عن الكفاءات التي تخرجت من الدستور غير منفصل عن ملف الدستور حاليًا، وشبح إغلاق الصحيفة التي تراكمت ديونها، ووصلت آذان الغرب والشرق فضيحة عدم قدرتها على دفع رواتب موظفيها.

الدستور مؤسسة عتيدة غراء، فلا تتركوا جمار الدستور للريح.

تعليق عبر الفيس بوك