الدافع العظيم

أسماء القطيبي

يُقال في علم المنطق بأنّ كل فعل لا بد وأن يكون مدفوعا بسبب معين، كغريزة البقاء التي تدفع الشخص للاحتفاظ بحياته وتجنيب نفسه الأخطار التي قد تفقده إياها، أما أعظم الدوافع - برأيي- فهو الحب بأي شكل كان. فالشعور بأن ثمة ما يهم البقاء من أجله في هذا الوجود، وثمة ما يجعل من عينيك ترى ما لا يراه الآخرون، وما لم تستطع رؤيته بنفسك قبل أن يغمرك هذا الشعور، لهو أمر يستحق أن تقدم للحياة قرابين الامتنان من أجله.

رابعة العدوية عاشقة زاحم اسمها أسماء العشاق في كتب التاريخ، ونافس شعرها قيس وعنترة، فقد كان من ذلك النوع الشفيف الذي يصل للقلب، ولأن المحبوب لم يكن سوى الله -جل جلاله-، فقد كان حبها خالصا وهي تناجي الله فتقول:" إلهي إن كنت أعبدك طمعا في الجنه فحرمها علي، وإن كنت أعبدك خوفا من النار فأوردني إياها"، هذه الدرجة من الحب السامي لا يصلها إلا من تجرد من الأحقاد والغيرة وخوف الهجران، ومن اطمئن إلى محبوبه وأمن قربه، وقد ذابت رابعه في حب الله وتعاظم حبه في قلبها، جالبا مزيدا من الروحانية، حتى جادت قريحتها بهذه الأبيات الخالدة

فليتك تحلو والحياة مريرة .. وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر.. وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين..وكل الذي فوق التراب تراب

أما أخبار العاشقين ومحبوباتهم التي لا تكف عن إمداد التاريخ بأخبارها، فهي تبرهن كيف أن الحب يجعل من المستكين المتردد بطلا مقداما، ومن الخجول المتواري متحدثا لبقا، فالحب حين يأتي يجلب معه ثقة بالنفس، وحماسة لعيش تفاصيل الحياة لا تكاد تخطئها عيون جربت الحب واختبرته، أما عن تلك المقولة "خلف كل رجل عظيم امرأة" فأعتقد أننا لابد وأن نصحح نقصها لتصبح "خلف كل رجل عظيم امرأة تحبه"، فالعبرة ليس في وجود المرأة أو الرجل في حياة كليهما بل في الحب العظيم الذي يدفعهما للإنجاز، ويجعلهما به عظيمين. ولأن الحب يتخذ أشكالا لا حصر لها في العلاقات الإنسانية، فلا يعقل أن نتصوره عاصفا مجنونا على الدوام بين محبوبين، بل أن يكون حاضرا في وجدانهما مطمئنين لوجوده، يترجمه اهتمامهما ببعضهما البعض. وتشعله مواقف فاصلة في حياة كليهما.

وللناس في الحب مذاهب، فهناك عشاق المدن الذين لا يكفون عن التغزل فيها، ويرون فيها ما لايراه غيرهم من الجمال، وبلغ الأمر ببعضهم أن لفظ أنفاسه حين استولى المستعمر على معشوقته من هول ما اشتد الأمر عليه وعظم، وهناك عشاق الفنون الذين يستنطقون الموسيقى، ويتحاورون مع اللوحات البيضاء فلتهمهم حياة لا تتاح لهم في الواقع كما يشتهون. وحقيقة لا أتصور شخصا خاليا من الحب، بل لا أتصور أن شخصا قادرا على الحياة لحظة إضافية إن لم يكن يشعر بالحب مطلقا، فحتى ذلك اليائس الذي لا يجد في الحياة ما يستحق العيش، هو في الحقيقة يحب نفسه، لذا يعتقد أنه يستحق حياة غير التي يحياها، وحتى ذلك العاشق المخذول يعزي نفسه بأن في هذه الحياة من يمنحه حبا صادقا لا ينضب -ذلك هو حب الأم-، اذكر انني قرأت مرة لكاتب -لا اتذكر من هو- أننا نحب أعدائنا ونعجب بهم بدرجة معينة، وإلا ما كنا منحناهم ذلك الاهتمام وتجشمنا عناء التفكير بهم وإعارتهم الاهتمام. يا لعظمة الفكرة!

أحبوا أيها الأعزاء ما استطعتم، لا يأتي الحب جاهزا في طرود كبيرة، ولا يأتي به محبوب مفصلا كما نشتهيه، المعنى دائما يكمن في التفاصيل الصغيرة، في لحظات الامتنان، وفي الالتقاء بأشخاص يجعلون من الصعب سهلا، أحبوا انفسكم ما امكنكم لأن مرجعكم إليها بعد كل خيبة وانكسار، ولولا ما يهدره الانتظار من حياة لمجده الحكماء وطافوا بالناس يدعون إليه، لكن الحياة لا تتيح من الوقت إلا بقدر ما يجعل من اقتناص كل فرصة للحب ربحا لا يعادله ربح.. ولأن الشعر يأتي دائمًا بالحب أجدني مرة أخرى استحضره، وهذه المرة في دعوة إيليا أبو ماضي إليه:

أحبب فيغدو الكوخ قصرا نيرا.. أبغض فيمسي الكون سجناً مظلما

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك