استقبلتْ المنامة، يوم الخميس الماضي، الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في طريق عودته من الهند "التي استغرقت يومين، ترأس خلالها وفد مصر المشارك في قمة منتدى (الهند-إفريقيا)، التي استضافتها العاصمة الهندية نيودلهي". التقى السيسي -خلال الزيارة الخاطفة- ملك البحرين حمد بن عيس آل خليفة "لبحث سبل تعزيز العلاقات الوثيقة والمتميزة التي تجمع بين مصر والبحرين، ومتابعة التنسيق القائم بينهما لمواجهة التحديات الإقليمية الراهنة".
ولسبب ما، ودون قرار سابق، وجدتُ نفسي أنساق وراء ذكريات واقع العلاقات المصرية-البحرينية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كي تبرز أمام ناظري مجموعة من الصور المتداخلة، التي قد تبدو غير مترابطة، لكنها في حقيقة الأمر تمثل صورة متكاملة تقارن بين الواقع العربي، وتحديدا المصري في تلك الفترة الذهبية من تاريخ العرب المعاصر، والفترة الحالية التي نعيشها، والتي يصعب اختيار الوصف الملائم "غير البذيء" لها.
في تلك الفترة، كانت مصر منارة البلاد العربية الثقافية والتعليمية؛ حيث كان يتوجه إليها التلامذة من مختلف بلدان الخليج العربي، ومن بينهم البحرين، لينهلوا من منارات العلم في جامعاتها العريقة، وأكثر من ذلك كان يتلقى الكثيرون منهم منحا مالية شهرية تصل إلى حوالى سبعة جنيهات ونصف، وهو مبلغ له قيمته في تلك الفترة. وخرجت الجامعات المصرية روادا خليجيين من أمثال المغفور لهما الوزير السعودي السابق غازي القصيبي، ورجل الأعمال عبد الرحمن الزامل، وآخرين من أمثال رجل الأعمال البحريني محمد كانو ورئيس مجلس الشورى الحالي علي الصالح والنائب الأول للمجلس جمال فخرو وعشرات الآخرين من مهندسين وأطباء، ومهنيين.
وعلى المستوى الإعلامي، كانت محطة "صوت العرب"، هي الأكثر استماعا بين جميع المحطات الأخرى، بل وصل الأمر إلى أن من يريد أن يقتني مذياعا كان يسبق سؤاله عن السعر، استفساره عن قدرة المذياع على الوصول إلى تلك المحطة. حينها لم تكن سماء البلاد العربية تعج بالفضائيات الحالية التي تنفث سمومها في أذهان المشاهدين العرب. كانت العروبة تجمعنا.
وعلى المستوى الرياضي، كان الشارع البحريني منقسما بين "أهلاوي"، من مشجعي النادي الأهلي المصري، و"زملكاوي"، وهو المنافس اللدود لـ"الأهلي". وكانت المتابعات عبر المذياع، وليس الفضائيات. حينها كان اللاعب النموذج هو صالح سليم المصري وليس رونالدو أو ميسي الأوروبيين.
أما على المستوى الثقافي؛ فكان المواطن البحريني، ينهل -وفقا لخلفيته الفكرية والسياسية، واهتماماته الفنية والأدبية- من مواد مجلات مثل "المصور"، و"روزاليوسف"، والكواكب" و"صباح الخير"، وفي مراحل لاحقة دوريات فصلية وشهرية مثل "السياسة الدولية"، ومجلة الطليعة" التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي وشقيقتها "الكاتب" أحمد عباس صالح. ولا يمكن أن نغفل هنا عمالقة الأدب من أمثال طه حسين، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، سوية مع كواكب الفن تتقدمهم أم كلثوم وعبد الوهاب.
وفي سياق تلك الذكريات المتلاحقة، يبرز الواقع الاقتصادي؛ حيث كانت التوقعات حينها تتنبأ بتطور اقتصادين لدولتين صغيرتين، نسبيا، من دول العالم الثالث، هما مصر وكوريا الجنوبية. وبينما أكدت سيؤول تلك التوقعات خذلتها القاهرة. ولكي نبرر الأسباب التي دفعت تلك التوقعات بترشيح الاقتصاد المصري لخوض ذلك السباق، ننقل نصا أورده رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام المصرية أحمد السيد النجار الذي يقول في إحدى فعاليات التعاون المصري-الكوري: "في العام 1965 وبعد أن أكملت مصر خطتها الخمسية الأولى بلغ الناتج المحلى الإجمالي المصري نحو 5.1 مليار دولار، بينما كان نظيره السعودي نحو 2.3 مليار دولار في العام نفسه. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل من تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة بالترتيب نحو 4390، 3840، 3130، 3000، 970 مليون دولار في العام المذكور. أي أن كل دولة من هذه الدول كانت تأتى خلف مصر في حجم الناتج المحلى الإجمالي". وتؤكد ذلك دراسة أعدها طالب كوري في إحدى الجمعات المصرية، أتى على ذكرها الكاتب صام رفعت عنوانها "دراسة مقارنة عن التنمية الصناعية في كوريا الجنوبية ومصر بين عامي1952". تخلص الدراسة إلى "أن الاقتصاد المصري في تلك الفترة يساوي عشرين مرة الاقتصاد الكوري الجنوبي".
وتقولأميرة الحدادالباحثة في قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسيةجامعة القاهرة، في دراستها "مصر مقابل كوريا الجنوبية: دربان متباينان للتصنيع"، ان تجد بعض الأسباب التي أدت إلى التقدم الكوري الجنوبي الملحوظ، مقابل التراجع المصري الملموس، قائلة إن "أفضل ما يوصف به أداء التنمية الاقتصادية في مصر على مدار الخمسين عاما الماضية هو أنه أداء (متواضع). ومن أبلغ الأدلة على هذا ما نشهده من تراجع الأداء المصري مقارنة بدول أخرى مثل كوريا الجنوبية، والتي بدأت باحتمالات وتوقعات تنموية ضئيلة وغير مبشرة إلا أنها تخطت مصر بمراحل يصعب تخيلها. والحقيقة خلف هذه الرواية هي حقيقة تنمية صناعية ناجحة في ظل قيادة ً... والواقع أن كوريا الجنوبية لم تكن في وضع يمكنها من الشروع في برنامج سريع للتنمية الصناعية إلا أن أدائها الرائع ما هو إلا نتيجة حتمية لحزمة السياسات المترابطة التي اتبعتها الحكومة. ومع ذلك يبقى اللغز فقد تبنت كل من مصر وكوريا الجنوبية ظاهريا سياسات متشابهة إلى حد كبير، فبدأت كلتا البلدان بإصلاح الأراضي land reform لإعادة تحويل الاستثمارات من الزراعة إلى الصناعة، كما تلقت كلتاهما معونة أمريكية -بالرغم من تلقي مصر في الأعوام الأخيرة لكميات تفوق بكثير تلك التي تلقتها كوريا الجنوبية -والأهم من ذلك أن كلتا البلدين قد تبنتا سياسات صناعية للإحلال محل الواردات مع إسناد دور هام للدولة في تشكيل عملية التنمية". وتنهي الحداد فقرتها التشخيصية تلك بسؤال مهم: "إذا، فما الذي يفسر الاختلاف الهائل في النتائج؟ ويجد من يقرأ دراسة الحداد الكثير من الإجابات التي تخاطب العقل لكنها تجرح العاطفة.