المزايا: نسبيةَّ أم تنافسيَّة؟!

د.سعد بساطة

أرَّق "مايكل بورتر" مسألة تنافس الدول بين بعضها البعض؛ حيث النتائج يحصدها المواطن، لدى تفوّق بلده في مضمار ما، فإذا برعت في السياحة؛ ينعكس هذا على كمِّ السياح المتدفقين وعدد الليالي التي يقضونها؛ والعملة الصعبة التي ينفقونها، مما يحدث أثره في نوعية المواصلات -بتطويرها- وأنظمة المصارف -بتحديثها- وخدمات الفنادق -بتحسينها- إلخ.. فهي بالنهاية حلقة متكاملة بجيدها (وحتى بسيئها)!

وأيُّ بلد لا يبدأ بالعادة من الصفر؛ فلديه صفات تفضيلية نسبية؛ فهذا بلدٌ لديه مزارع كرمة لذيذة والآخر ذو شواطئ جميلة والثالث يتمتع بطقس رائع والرابع يحوي أوابد تاريخية مهمَّة، هذه الصفات ليس لنا يد في صنعها؛ بل ورثناها من الأجداد، والمهارة أن نحوّل تلك الميزات النسبية إلى ميزة تنافسية.. كيف؟ بإضفاء مواصفات إضافية عليها تجعلها جذابة، وتضعنا في السبق ضمن ذلك التنافس الدولي المحموم والذي لطالما أشرنا إليه.

والأمثلة أكثر من أن نحصيها: على مستوى الأشخاص، والمؤسسات، والدول.

لنبسِّط الأمر قليلاً: ثلاثة أشخاص (وليكن) (3) أخوة كلٌ منهم ربّ أسرة: ورث كلٌ منهم عن والده مليون ريال؛ واحدٌ عمل بالمبلغ، ووضعه في مشروعيْن مختلفيْن -احتياطاً- وتابع أعماله واجتهد لمضاعفة رأسماله؛ أي أنه تطور مراحل من النقطة التي بدأ منها.والثاني: أودعه لدى مستثمر وأسلم عينيه للوسن؛ فبقي -بالكاد- في المربع الذي انطلق منه. أما الثالث، فصرف ماله على الملذات وبعزقه يمنة ويسرة وبعد فترة فوجئ بانتهاء الفلوس، فبدأ بالاقتراض؛ ثم طفق يبيع حديقة المنزل ثم انتقل لأثاث البيت... تراجع خطوات للوراء.

الأشخاص الثلاثة يُمثلون ثلاث دول مختلفة السياسات؛ لنأخذ دولة واعية ومثابرة مثل ماليزيا؛ ورثت مواصفات متواضعة؛ نمتها وحرصت على متابعة تحسينها ووصلت إلى ماهي عليه: دولة صناعية مشهورة بجامعاتها، وتصدّر سلعاً إلكترونية ذات قيمة مضافة عالية بعدما كانت تصدّر مواد زراعية خام؛ مما رفع الدخل القومي وانعكس على تعليم وصحة ورفاه المواطن.

وهنالك دولة ثانية: تركت أموالها مودعة ببنوك الغرب؛ ومشت بتنمية مزيفة بطيئة وخطط طويلة المدى؛ يتفنن القائمون على تلك الخطط بوضع الألوان لتغطية البطء في النمو؛ وتسير الأمور الهوينا، في حين تهرول باقي دول العالم بخطوات متسارعة.

وبالمقابل؛ فدولُ كثيرة أخرى (مثل جمهوريات الموز في إفريقيا): ذات مزايا لم يتم استثمارها (أو استثمرت بشكل سيئ من قبل حيتان محليين أو شركات متعددة الجنسيات أتت لشفط الثروات وبشروط ليست لصالح البلد وسكانه) بذخ في حلقة ضيقة؛ وديون تثقل كاهل الخزينة؛ ومشروعات كمالية وفساد شامل..والمواطن يشكو -وما من يسمع- فالحفرة أمام منزله تكبر والرقعة في بنطاله تتسع!

نُقارن دولتين لهما نفس الشواطئ والمناخ والمطبخ: سوريا ولبنان؛ بل إنّ الأولى أرخص بالأسعار وأغنى من ناحية الآثار؛ ولكن الثانية تحظى بأعداد هائلة من السياح أضعاف جارتها، لقد عملت على تطوير مزاياها الموروثة، وحسَّنت في الخدمات وأعطت السائح حاجاته، بل وقد لبت أعمق رغباته؛ فتفوقت في مجال السياحة على منافستها الجارة!

تمتلك سلطنة عمان مزايا مهمَّة (ولكنها نسبية ينبغي أن نتعهدها بالرعاية للتحول لمزايا تنافسية)؛ الطقس في أرجاء كثيرة وعلى مدار شهور طويلة: جميل؛ بلاد واسعة الأرجاء للاستثمار؛ ثروات باطنية (معادن؛ نفط) وظاهرية (تمور ومزروعات)، ولكن الثروة الأهم: شعبٌ طيب الأعراق: شبابه متحفز للعطاء؛ وشيبة محافظين على الأخلاق بمكارمها.. وهذه أيضاً ميزة نسبية: ينبغي توضيح عدالة المحاكم لمن يود الاستثمار؛ ونظافة يد الموظف أثناء ترخيص مشروع ما؛ ولكن، ينبغي الاهتمام بالثروة الأهم: الشباب؛ فبصقل مواهب شبابنا وتحديث علومهم ورفع مستوياتهم ليتناسبوا مع متطلبات المؤسسات العالمية من: مصارف ومؤسسات التأمين والشركات الدولية؛ هذا طكله يجذب استصمارات تندفع لجعل مسقط وأخواتها (صلالة/ نزوى/عبري..) مراكز إقليمية لأنشطتها.

نأخذ التمور كمثال: هي ذات نوعية مقبولة (ميزة نسبية)؛ يمكننا أن نضعها في موقع مرتفع بجهودنا الدؤوبة (ميزة تنافسية).

القيام بدورات لتحسين زراعة تلك التمور والعناية بتصنيعها ووضعها بأغلفة أنيقة؛ وتصديرها عبر قنوات موثوقة، والاشتراك بالمعارض الدولية؛ وإرفاق ذلك بحملة ترويجية للفت النظر لمزاياها: بيئة حسنة وزراعة عضوية وأسعار منافسة؛ كل هذه الجهود تحوّل تمورنا من مجرّد منتجات تقليدية نزرعها كما فعل الأولين؛ ونسوّقها بمئات الكيلوجرام، دون أن نلقي بالاً لرغبات المستهلك؛ وبالتالي نفقد العوائد الأعلى (Hi revenue) وتضمّ هذه لمئات الفرص الضائعة التي تمر قربنا ولا نلقي لها بالاً.

النفط.. هبة منحنا إياها المولى؛ نقوم بتصديرها بألوف البراميل بالسعر العالمي (ميزة نسبية).

النفط العماني يقدّم وقوداً لمصانعنا وسياراتنا ومنازلنا بأسعار جدّ رخيصة؛ ونصدّره خاماً..! نقوم بإنشاء مصفاة تكرير للحصول على مشتقات مفرطة في التقدم؛ نكفي حاجتنا المحلية من هذه المشتقات -التي كنا نستوردها- ونصدّر ما يفيض بأسعار مرتفعة -بفضل القيمة المضافة- ونشغل يد عاملة من المهندسين الكيماويين الفنيين؛ ونحصل على فوائض من العملة الصعبة... (هذا ما ندعوه بالميزة التنافسية).

بحسب بورتر هناك طريقتان تتنافس الدول فيهما: تقديم السلعة/الخدمة: بسعر أرخص، أو بتميز أفضل (أو بتأمين الصفتين-وهو الأفضل).. كيف ذلك؟ تخفيض كلفة فرصة العمل؛ أو تميز في التقانة التي تقدمها؛ أو جمعهما: تقانة أعلى بأسعار أخفض -وهو الأفضل- وذلك في الأنشطة الأساسية لمشروع ما والأنشطة الداعمة للمشروع ذاته (من بُنى تحتية وخلافه).

لننتقل للرياضة: ألا يرفع مواطنو الدولة التي أحرزت في مباراة البارحة أهدافاً أعلى رؤوسهم؟ في حين يتمتم أبناء الدولة الخاسرة "آه، إنها مجرد لعبة"... لخص آدم سميث بكتابه (ثروة الأمم) التنافس بكلمة واحدة: "الكفاءة"؛ المتعلّقة بكل ما يلوذ بالاقتصاد (خدمات؛ طرق وجسور؛ الملاحة وغيرها..) وهذه لا تأتي بين ليلة وضحاها، ولا تتحقق بمجرد الأماني!

ضمن ذات السياق إليكم طرفة: شخص فقير يدعو ربه عقب كل صلاة بأن يربح الجائزة الكبرى (لمعالجة زوجته المريضة؛ وتدريس ابنه؛ وترميم سقف بيته؛ وإصلاح ذاته...إلخ)؛ بعد صلاته اليومية، انكبّ كعادته على الدعاء بصوت مجروح؛ فأتاه صوت ٌعالٍ من السماء "أنت تمشي خطوة وأنا أمشي خطوات؛ على الأقل: اشتري بطاقة "يانصيب"..!".

الأرقام التي يعرضها تقرير التنافسية الدولي سنوياً -والذي تتخاطفه الدول- يمكن أن تكون بداية إعادة النظر في سياسات كثيرة، وتطوير مقاربات عديدة؛ ونصب أعيننا رفاه المواطن.. فقطار التنافسية ماضٍ في طريقه؛ وهو لا ينتظر المتأخرين، فإما نلحق به؛ أو نفوِّته، أما داخل القطار: فهنالك درجات، فمن يختار الممتازة عليه أن يعمل على الوصول إليها؛ والمحافظة على تلك الدرجة ما استطاع!

لا أودّ ختم عجالتي بموعظة: لكنّ قديماً تحدّث علم النفس عن بعض مواصفات البشر وقسمه إلى موروث ومكتسب؛ وأكد الباحثون في هذا المجال أن لا غنى عن العناية والرعاية للوصول للقمة؛ فمن يولد ولديه صوتٌ جميل لا يستطيع أن يترنم بأعذب الألحان إلاّ إذا تدرّب على المفاتيح الموسيقية؛ وتمرّن على الآلات الموسيقية؛ وبذل ليالي من التعب والعرق للوصول لمقصده؛ وهذا بالظبط ما نحتاجه قبل أن نشدو: "ياليل؛ ياعين...".

SADBSATA@GMAIL.COM

تعليق عبر الفيس بوك