السلطة السياسية والتراث الديني


داود سليمان

يناقش العربي إدناصر في بحثه الموجز "جدلية المعرفي والسياسي في الفكر الإسلامي" إشكالية التداخل ما بين المعرفة "الدينية" والسياسة في الإسلام، ذلك وكما هو معلوم أن الفكر الإسلامي يؤسس لسلطة تشريعية تعنى بأحوال النّاس في دنياهم وآخرتهم مما جعل السلطة تعمل على استمالة حاملي العلم ليكونوا في صفها ويكونوا أداة تخدم مصالحها تحت وقع الإغراء والرشاوي أو بالإكراه والترهيب والتنكيل، بدل أن يتحولوا إلى معارضة فكرية وسياسية لتوجهاتها. ساعد تطور العلوم الإنسانية المعاصرة في تقنيات البحث والمناهج في مستويات التحليل اللغوي والسيميائيات والمستوى التاريخي والانثروبولوجي والثيولوجي في تفكيك هذا الالتباس وإزالة القداسة عن كثير من القضايا التي لا يُسمح بمساسها أو إعادة التفكير بها ونقدها وإظهار بداهتها وأصلها الأرضي، حيث لعبت السلطة السياسية دورا بارزًا في خلق وتشكيل كثير من العقائد والأفكار والتوجهات الدينية سواء كان ذلك في التأثير العرضي أو المباشر بها أو حتى في اختراعها والذي سنناقشه من خلال عرضنا لمقالة العربي إدناصر في هذا المقال.

العربي إدناصر يبحث في واحدة من أهم القضايا الثقافية وهي علم الكلام ويذكر أنّ الفهم السائد عن هذا العلم بأنّه علم يبحث في العقائد والإيمان بمنطق العقل والبرهان دون أن يكون متأثرا بالواقع والحال السياسي الذي تزامن مع نشأته؛ لهذا كان السؤال هل هو كلام في اللاهوت؟ أم هو كلام في السياسة؟. أثار مشكل الخلافة أو الإمامة بعد وفاة الرسول كثيرًا من الإشكالات المعرفية والتصورية التي ترتبت عليه نتائج سياسة على مستوى الفرد والجماعة، ثم عرف نقلة نوعية بعد الفتنة ومقتل عثمان الذي نشب على أساسه صراع سياسي بين المسلمين. ثم استحواذ بني أُمية على نظام الحكم وانقلابها على الخلافة "الراشدة" القائمة على الشورى إلى ملك عضوض. في ظل هذه الظروف وعلى أثر ذلك تشكلت فرق وأحزاب ولدت نقاشاً سياسياً تحت غطاء فكري وكلامي حول مسائل الاعتقاد والإيمان، أخذت الفرق الكلامية تبني مواقفها السياسية انطلاقاً من تأصيلات فقهية وعقدية مستوحاة من النص الديني أو مُعطيات الواقع الاجتماعي السياسي. اللافت في الأمر كما يقول إدناصر أنه تمّ تقييم هذه الفرق على أنّها مذاهب مُستحدثة ابتدعت آراء في قضايا الإيمان والاعتقاد وتم تغافل أبعادها السياسية، لهذا كان السكوت على الهجمة الشرسة للسلطة على هذه الفرق تحت دعوى حفظ الدين والعقائد من زيغ أصحاب الأهواء والملل والنحل. لذلك كان العزوف عن "الكلام" من العامة حتى يتجنبوا الاصطدام مع السلطة أو خوفًا من الشك بعقائدهم. أما وقع ذلك في وسط المُتكلمين أنفسهم فكان في التحول التدريجي في النزعة والتوجهات السياسية لعلمهم(مشكلة الإمامة، ومشكلة مُرتكب الكبيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشكلة الخروج على أئمة الجور) وبدأوا يخوضون في المقابل في مواضيع ميتافيزيقية مجردة؛ عندئذ رضي عنهم رجل السلطة..

القضية الأولى هي قضية نشأة الفرق:

حيث إنّ الفتنة التي شهدتها الساحة الإسلامية وولادة هذه الأحزاب والتيارات ارتبطت جذرياً بإشكالية الإمامة. يقول الشهرستاني مؤرخ الملل والنحل (إنّ أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان").وفي مراجعة تاريخية بسيطة نجد مثلاً أنّ الخوارج عُرفوا بدءًا بموقفهم السياسي من قضية التحكيم التي بنت لاحقاً كما يقول إدناصر نظرياتها في الاعتقاد كما نرى ذلك مثلاً في رفضهم التفويض والوصية الإلهية في الحكم بتعويضها بالحكم الجماعي كما استخدموا التكفير للجماعات المناوئة لتبرير قتالها والخروج عليها. كذلك يمكن إسقاط نفس القياس على حركة الشيعة المعارضة الشرسة للنظرية السياسية السنية في الإمامة التي بدت أول بوادرها في اجتماع سقيفة بني ساعدة، التي تمّ فيها تجاهل علي الذي كان منشغلاً بدفن جثمان النبي لهذا رفضوا وطعنوا في خلافة الخليفة الأول ومن جاء بعده لأنّهم ليسوا من بيت النبوة الورثة الشرعيين، أخذت هذه الفكرة بالتطور لتأخذ أبعادًا سياسية وفقهية ولاهوتية، حيث بات يعتقد أغلبية الشيعة بالوصية في تعيين القيادة السياسية بدلاً من الاختيار، لذلك قولهم بعصمة الأئمة جاء منسجمًا مع هذا البراديغم أو البناء التصوري الشيعي.


القضية الثانية هي قضية مرتكب الكبيرة وتقييم السلوك السياسي :

بعد التحول في نظام الحكم الإسلامي نحو منطق يجنح أكثر نحو منطق تغليب الشوكة والقهر وسياسة القتل والجور وهتك الأعراض والمحرمات وسلب للأموال، كان أن اتجهت المعارضة نحو وضع أحكام فقهية عقدية تلامس واقع الاستبداد وانشغلت بهذا الفرق الإسلامية في جدل فكري سياسي حول تقييمهم لفعل السلطة هذا عبر ما يسمونه حكم مرتكب الجريمة هل هو كافر أم مؤمن؟ وللمعتزلة موقف وسطي هنا وهو ما يُعرف لديهم بالمنزلة بين المنزلتين فمرتكب الكبيرة عندهم هو فاسق دون الكفر والإيمان.


القضيةالثالثة. الجبر والاختيار :خدعة سياسية للهروب من المساءلة الشعبية

غضبت جماهير المسلمين من حكم بني أمية لما رأوه من فساد إداري ومالي فما كان من دولة الملك الأموية إلا أن سعت لامتصاص هذا الاحتقان الشعبي بحركة ذكية حتى تحتوي أي إرهاصات تزعزع استقراراها. روجت ونشرت عقيدة الجبر والقدر الإلهي السالب الإنسان الأموي في كل ما يقوم به ولو كان من قبيل الظلم والاستبداد. وكان ذاك سيرة أغلب ملوك بني أمية فيكون كل ما يفعله الحاكم أو يأمر به هو تنفيذ إرادة الله حتى وإن كان في ذلك جور وظلم؛ فالظالم هو الله وهم ليسوا إلا أداة مسخرة لقضاء ما كان سابقاً في علم الله وبهذا هم يخرجون أنفسهم من أية مساءلة أو ردات فعل لظلمهم وجورهم ...

القضية الرابعة خلق القرآن:

يصف فهمي جدعان قضية خلق القرآن في كتابه "المحنة " بقوله: محنة بكل المقاييس إذ حصل فيها أكبر وأول خرق جماعي في تاريخ الإسلام لحرية الرأي والفكر والمعتقد ممثلاً بقيام السلطة السياسة بإجبار النّاس على تغيير آرائهم بالقوة " فصارت بذلك قضية التعبد شأناً من شؤون النظام العام للدولة القول الفصل فيه بدل الحوار الفكري الحر والمسؤول. فكان أن تدخلت السلطة زمن المأمون باسم العقلانية فاضطهدت القائلين بأنّ القرآن قديم لأنّه كلام الله الأزلي صفة من صفات ذاته الأزلية القديمة ولاحقًا في عهد المتوكل"ناصر السنة" قامت دولته باضطهاد القائلين بأن القرآن مخلوق وطلبت في هذا مؤازرة العلماء في أن يتم إصدار فتاوى بتحريم من يعتقد بأن القرآن مخلوق محدث...

هذا البحث الموجز والمركز يظهر جلياً أنّ العقيدة في أماكن كثيرة كانت ألعوبة سياسية وليس قدسية، إلا بقدر ما تجلبه من الأنصار وما تضفيه من شرعية سياسية، لذلك هناك حاجة ماسة لإعادة قراءة التراث في ضوء التاريخ وخصوصاً التاريخ السياسي الذي أدخل إلى الذاكرة والوعي الجمعي مقدساً جديدًا ليس من الدين في شيء. كما أنّ الدعوة إلى الكف عن فحص الماضي ومحاولة فهم كثير من القضايا المفصلية في التاريخ الإسلامي دعوة ملتبسة والأحرى أن يتم إخضاع كل ذلك التراث للنقد والمراجعة بوضعه تحت المجهر الابستيمولوجي حتى ننهي الجدل في كثير من القضايا التي فرقت المسلمين فرقًا ومللاً ونحلاً مرة واحدة وإلى الأبد بدلاً من جعلها مُعلقة تفتح كلما رأى رجل السياسية مصلحة فيها.


chancellor2050@live.com

تعليق عبر الفيس بوك