جسور الوعي: الترجمة وبعض إشكالاتها

عبد الله المقبالي

"ليس على الترجمة سيّد"، هكذا يرى بعض المثقفين الترجمة، بينما يراها آخرون حسناء تمارس غوايتها على المترجم فيقع في حبائلها خائناً للنص، لذلك قيل "الترجمة حسناء، لكن خائنة". بيد أن يوسف سلامة - الباحث والأكاديمي السوري- في مقال له بعنوان (الترجمة بين الوساطة والتأويل) يرى الترجمة وساطة بين وعيين، أي أنها معجزة التوفيق بين الوعي الذاتي وصورة الآخرية. إن تعدد وجهات النظر هذه حول الترجمة يعود إلى عاملين مهمين، الأول قدرة الترجمة على نقل ثقافة الآخر، والثاني قدرتها على الاحتفاظ بخصائص اللغة المترجم إليها، وعلى ضوء هذه الجدلية يكتب سلامة دراسته.

في البداية يقر يوسف سلامة باستحالة كتابة تاريخ للترجمة، ليس لشيء بل لأن تاريخ الترجمة هو تاريخ الإنسانية ذاتها. ويقصد سلامة بذلك -كما أوضح هو- أن تاريخ الترجمة يبدأ في الوقت الذي أدركت الذات نفسها وتعرفت فيه على الآخر المختلف. ثم يتساءل سلامة عن شرعية فعل الترجمة. أي كيف نبيح لأنفسنا ضم تجربتين لا تتماهيان؟ تجربة الآخر المختلف وتجربتنا، إذ لو تماهتا لما احتجنا إليها. ولكن الكاتب يعود ويجيب على هذا السؤال مبرراً هذه "الشرعنة" بأنّ التجربتين تمتلكان عناصر كلية أو شبه كلية تقع ضمن الإطار الإنساني العام. الكاتب يحاول تصوير التأرجح في تصنيف الترجمة، بين النقل والتأويل، لكنه لا يلبث أن يحسم الأمر باعتبار الترجمة أحد أوجه التأويل حيث تنقل التجربة الكلية إلى تجربة جزئية هي تجربة الأمة المنقول إليها. "إنها نشاط إنساني أمثلي يحيل جوهره إلى تجربة التواصل بين الأمم والشعوب، بل هي عنصر مقوم في التجربة الإنسانية لا يتطرق الشك إلى قيمته حتى لو افترضنا أن المستقبل أو الآخر يتقن اللغة التي كتب بها النص، لأنّ المستقبل سيظل في تعامله مع النص الذي ينتمي إلى ثقافة مختلفة قارئاً أو مؤولا أو مترجماً حتى ولو قرأ النص بلغته الأصلية" والكاتب في النص السابق يحيل إلى قضية بالغة الأهمية تتعلق "بروح النص"، وكأن الكاتب يبين عنصرًا خفياً في كل نص، يُفقد للوهلة الأولى من مفارقته لثقافته الأم إثر ما تحمله الثقافتان أو اللغتان من خصوصية.

ولا يفوت الكاتب التذكير بأنّ الترجمة وما يرتبط بها من تأويل تظل جزءا لا يتجزأ من الفعل المنتج للثقافة. لكن هناك قضية الفروق الفردية التي من شأنّها التأثير على النص المترجم ناهيك عن قضيتنا آنفة الذكر المتعلقة بالفروق بين الثقافات، وهذا ما حدا بالبعض إلى اعتبار الترجمة غير ممكنة، بل يستنكر ممارستها جملة من المثقفين. وفي السياق ذاته يؤكد الكاتب أن ظاهرة الامتزاج بين اللغات مرتبطة بخاصية ازدواج اللغة لدى المترجم، وتكشف عن التداخلات الدارجة بين اللغات.

في قسم لاحق من المقال يتطرق الكاتب إلى أقسام الترجمة، فيقسمها إلى ترجمة أدبية وأخرى غير أدبية. فالترجمة الأدبية عمل إبداعي يتصل بعمل إبداعي آخر، وهي "عملية تفاعل إبداعي في إطار له ضوابطه". وأما الترجمة العلمية فمستوى الصعوبات فيها أقل إذا ما قورنت بالترجمة الأدبية، ثم يمضي الكاتب في حديث لا يبدو دقيقاً حول "سهولة" ترجمة العلوم، ولعله أغفل المسائل المتعلقة بالمصطلحات والأشخاص وقبل ذلك الفهم العميق للقضية العلمية ذاتها. وقبل أن ينهي مقاله يتحدث الكاتب عن العناصر الأساسية للترجمة وهي بالترتيب كما ذكرها: اللغة المصدر، والنص المصدر، والمترجِم، النص المترجَم، ولغة الترجمة، واللغة المستقبلة. والعناصر الأساسية واضحة جلية غير أنّي لا أرى ضرورة لذكر لغة الترجمة ثم ذكر اللغة المستقبلة. ربما ذكر أحد العنصرين يُغني عن الآخر سيما أن الترجمة لا تلقى رواجا أو بالأحرى تفقد جودتها في حال تمت ترجمة النص عن نص مترجم. والكاتب نفسه عدل عن رأيه هذا وذكر في موضع لاحق أن لغة الترجمة هي عينها اللغة المستقبلة. وخلص في النهاية إلى أن وظيفة المترجم لا تقف عند حد نقل المادة اللغوية بل إن جوهر وظيفته هو التأويل بالمعنى الهيرمونيطيقي للكلمة. فالمترجم ليس ناقلاً فحسب بل مفسرا وقارئا ومؤولاً أيضاً، وعليه يمكن اعتبار المترجم مؤلفاً ثانياً، وبهذا تكون الترجمة إضاءة بل إضافة للنص الأصلي. ويقر الكاتب أن المترجم قد يتعرض للإكراه أثناء الترجمة فالنص أي نص لابد أن ينطوي على شيء من الغموض ولابد من المترجم أن يمتلك الشجاعة الكافية للتصدي لهذا الغموض والمخاطرة بالتأويل، ليس وفق ما يحكم الهوى، بل بما تقتضيه مصلحة النص وتستوعبه أوعية اللفظ. وإن نجحت العملية السابقة قد تكون الترجمة وسيلة لفهم النص وشرحه حتى للقارئ الذي يتقن لغة النص المترجَم الأم. ويضرب الكاتب مثالاً على هذه العملية كتاب (علم المنطق) للفيلسوف الألماني هيجل. يقول يوسف سلامة: إن الباحث الألماني الجاد عليه أن يضع النص الأصلي بين يديه، ثم يضع الترجمة الإنجليزية عن يمينه والفرنسية عن شماله، حتى يتسنى له الإطلاع على تأويلات المترجمين وفهم الثقافات الأخرى للنص الأصلي. إن عملية الترجمة ذاتها تتم عبر ثالوث المترجم، اختياره النص وتأويله ثم نقله. فالترجمة لا تنفصل البتة عن التأويل، لأنها ثمرة القراءة أصلا. وهي نتيجة فعل تقوم به الذات للكشف عن ذاتها وفي نفس الوقت تتطلع فيه إلى الذات الأخرى في عملية تكاملية تغذي النص المترجَم وتغني لغة المترجِم ناهيك عن الوظائف الفنية والاجتماعية التي تقوم بها عملية الترجمة إبان مرورها بالنص.

وفي الختام: إنّ الترجمة الجيدة، لا يُمكن بأية حال من الأحوال النظر إليها نظرة سوء. فالنص والمترجم ناقصان، كل واحد منهما يثري تجربة الآخر ويضفي عليها مسحة من ذاته؛ يتطور من خلالها النص ويكتسب المترجم معرفة إضافية ينقلها إلى لغته وقومه. النص المُترجم يكتسب شيوعًا وانتشارًا أكثر بالترجمة، يصبح أكثر عطاءً وثراءً وتنوعاً، سيما وأن قراءته تعددت والنظرة إليه تجددت. أما فوائد الترجمة لأمة من الأمم فهي أكثر من أن تحصى، ويكفي أنها عصب التطور في العصر الحديث وأداة من أدوات نقل المعرفة وتدويرها. هي الحل الأنجع لمشكلات التواصل بين المجتمعات البشرية والثقافات الإنسانية وتمهد الطريق لأرضية قابلة للعيش المشترك والتواصل الحضاري بين الأمم.

تعليق عبر الفيس بوك