الشيال

أحمد الرحبي

بالإضافة إلى السنين السبعين التي تثقل كاهله كان يحمل السوق عبئاً مضاعفًا فوق ظهره المنحني. منذ الصباح الباكر كان يدب في طرقات السوق القديم الكل يطلب خدماته تجارا وزبائن لا يكل من إجابة الطلبات، يجرجر خطواته بعزيمة قوية في مدافعة أعباء الحاجة ليعتاش من مكدته وتعبه في آواخر سنين عمره، لم يكن يستسلم أبدًا لوهن الشيخوخة وكأنّه لم يكن لديه وقت للإعياء أو المرض في هذه السن المتقدمة حيث وقته مسخر دائمًا لعمله كشيال باذلا في ذلك جهدا عضليًا كبيرًا ربما لا يتناسب وبغرابة مع سنين عمره السبعين.

ويمكن القول بأنّ صحة وازدهار أية سوق تقليدية كانت تظهر علاماتها واضحة من خلال فئة معينة من المعتاشين في أرجائها حيث يمكن اكتشاف مؤشرات هذه الصحة والازدهار التي تعيشها السوق في ذلك الوقت في وجود الحمالين بكثافة في سككها يعكسون بما يعتلي ظهورهم من أحمال، حركة رواج تجاري كثيفة في السوق وحركة بيع وشراء متواصلة لا تكل، فهم شريان السوق النابض، وجودهم بكثافة دليل عافية تجارية في السوق وخلو طرقات السوق منهم يؤشر على حالة كساد وعطل تجاري تمر به محلاتها، فقد كان هؤلاء الحمالون وكأنّهم نذروا حياتهم للمكدة والتعب بثمن بخس بالكاد يعينهم على عيشة الكفاف، في طرقات الأسواق ومخازنها.

لم يكن يشتكي من وضعه القاسي هذا أو يتذمر لكن مع ذلك كانت استجابته مصحوبة بغضبة لا يظهر عليها أنها موجهة إلى أحد بعينه يظل أثناءها يفيض باللعنات والسباب والشتائم والتي لا يضار أحد منها أو أنّها لا تأخذ منه مأخذ الجد، بعد أن اعتادها الجميع كطقس منه يمارسه مقرونا بالاستجابة لطلباتهم، وهذا الأمر (طقس الغضب) يجعله دائمًا كأنّه بركان مهيأ لأن يثور في أية لحظة بحممه في وجه الآخرين فقد كان من السهل استثارته والإطاحة بمزاجه النفسي وتأجيج هذا المزاج لديه نحو مستويات عالية متفجرة من الغضب المنفلت الخارج عن كل عقال أو سيطرة معقلنة.

بمزاجه المنحرف ناحية الغضب كان يشكل وجبة من التسلية لسفهاء ورعاع السوق فكانوا إذا ما أحسوا بحاجة إلى بعض التسلية أحاطوا به مشكلين حلقة من حوله مُطلقين على مسامعه تعليقاتهم التافهة ونعوتهم السخيفة فكان يغلي حنقًا وغضباً في بؤرة الدائرة الغاصة بالضحك والسخرية التي تكونت من حوله.

كانت الحال العضال من اعتلال المزاج هذه التي يشارفها وتصل إليها نفسيته على ما يبدو أنها تشكل لهم هدفاً في حد ذاته يتيح لهم تقطير نوع حاد ولاذع وحريف، ساد صرف من التسلية كتلك التسلية التي قد يمارسها الأطفال بشكل لا يخلو من سلوك ساد مبكراً داخل نفوسهم الغضة الصغيرة على كلب ضال أو في حق مجنون أو مختل عقلياً صادفوه على قارعة الطريق.

كانوا وقد أشبعوا متعتهم من التسلية الرخيصة ينفضون عنه وهو يرغي ويزبد باللعنات والشتائم أو ربما كانوا ينفضون من حوله بعد أن يوقنوا أنهم لا يستطيعون أو لا يجرأون أن يصلوا في مناكفاتهم معه أبعد من ذلك لكن بالرغم من بلوغه في تلك اللحظة حدودا قصوى من الحنق والغضب فإنه كان يحمل في دخيلته خصالاً رائعة من سماحة النفس التي لا تحمل ضغينة أو حقدا على أحد فكان غضبه وحنقه سرعان ما يتبددان بسرعة مع تبدل الظرف وانقضاء الحال تلك التي كان فيها.

لقد ظل هذا الشيخ السبعيني ملمحاً بارزا من ملامح تلك السوق العتيقة في قريتنا لا يخطئه أحد متواصلا كبندول ساعة لا يكل في حمل أثقال الآخرين إلى أن وصل به تقدم العمر الذي ناهز فيه التسعين إلى الخرف وما يرافق ذلك من عطل حاد في مختلف أنحاء الجسم، إنه ظل في الذاكرة نموذجا للحمالين الذين كانت تستقبلهم هذه السوق بأجسامهم المفتولة القوية يسخرون ظهورهم وأكتافهم لها في جهد متواصل يستهلك صحتهم ويضر بها إضرارا مميتا، فكانوا يتحولون في أواخر سنوات حياتهم إلى هياكل محطمة تستعرضها السوق في سككها وطرقاتها كبعض من ملامح تؤشر لفترات ازدهار عاشتها.

تعليق عبر الفيس بوك