أكان لي جدة؟!

مريم العدوية

تنقر الفكرة على رأسي بطريقة مستفزة، تتقافز الشخوص إلى مخيلتي بسرعة، تحتضن أناملي القلم وأشرعُ في إفراغِ ثرثرتي، أحتاجُ للتو إلى جدتي، فما زلتُ صغيرة جداً - لو تعلمين يا جدتي- على هدهداتِ حكاياتي دون أهازيجكِ العذبة.

هل أخبرتكم من قبل بأنّ جدتي كانت تحكي لي حكايات عن الفتاة التي تُجدل الساحرة ضفيرتها بزيتِ الفتنة لتغوي البشر؟!

لا أذكر أنّ جدتي حكت لي ذات يوم حكاية، بالكاد أذكر وجهاً قسا عليه الزمن منطفئةٌ عيناه، وقرصة أذن ما زالت حتى الآن كالحلقة على أذني، تداعبُ ذكرياتي بالمشهد الذي على إثره رزقت بهذه التميمة.

تعاتبني أختي كلما جاءت سيرتُكِ يا جدتي ولم أُذيل الحديث عنكِ بكرم الله وجهها وأسكنها فسيح الجنان، أيُّ فتاة شقية تلكَ التي تحرم الجدة من الدعاء لتنتقم من قرصة أذن؟!

غادرتِ مبكراً يا جدتي، مُبكِراً جداً، وبسذاجةِ صَدَقت حفيدتُكِ تبريراتهم النصف عارية، قالوا بأنكِ عِشتِ طويلاً، وينبغي أن تعودي إلى السماء! صدقتُ يا جدتي ومرت السنوات العشر وكرهتُ أن تكبر حفيدتكِ فتكتشف خدعتهم، الموت لا يخطفُ من عاش طويلاً، الموتُ لا يخطفُ من يناديه، ليس للموتِ قانون يتعامل وفقه، بل هو مطلق وللمطلقِ دائماً يقود.

ماذا لو أنكِ بقيتِ بيننا، أكنتُ سأقرأ لك حكاية من كراستي؟

أكنتِ ستستسلمين لنعاس بين حماقاتي كما تفعل أمي دائماً؟

أم كُنتِ ستكافئينني بقرصاتِ أُخر؛ لأُحرمَ الحماقة التي لم أجد سبيلاً للخلاصِ منها؟

حسناً.. سأغضُ الطرف قليلاً عن تلكَ القرصة التي جعلتني يومها أبكي طوال الليل، دعيني لأعترف لكِ كذلك بأنني لم ألقِ السلامَ على روحكِ بالدموعِ يومَ غادرتِنا، تلكَ حقيقة أعلم بأنكِ ستغفرين سذاجة حفيدتكِ فيها، لم يكن من السهل أن أبكي على عجوزِ قرصت أذني حتى سالت دموعي أمام الصغار!

لكنني للتو أجدني الشقية التي أبت إلا وأن تأخذ نصيبها من الجدة كاملاً، سأستدعي حكاياتك رغماً عن الموت الذي كانَ مزهواً يوم أن خطفكِ عنوة من بيننا، وسأحكي عنكِ للأطفال، سأخبرهم بأنكِ كُنتِ كمثلِ كل الجدات، تحكين لي حكايات الأميرة والأمير قبل أن أنام.

هل توجعكِ حكاياتي وأنتِ هنالك في المطلقِ تحلقين؟!

أعلمُ بأنني تلاعبت بالأحداثِ وبالشخوص وربما ألبستهم ما لا يروقُ لكِ، ومن الصعب جداً للتو أن أشرح لك بأن هذا حقٌ يكفلهُ لي الأدب، وبعيداً جداً عن ما تعدينهُ أنتِ تقليلاً من شأن الأدب!

سامحتكِ الطفلة يا جدتي، بعد أن غادرت طفولتها، أعادة ترتيب خزانة الذاكرة، وكم من الأشياء محشورة في الذاكرة وفق ما كانت تراه عيوننا القاصرة؟!

سامحتكِ وباتت ترسلُ لك الحُب والسلام كلما قبلت عينيها زرقة السماء.. ولكن من أخبر الطفلة يا جدتي أن الأموات والرب يقطنونَ السماوات حتى باتت الطفلة تختبئُ تحت سقف الغرفة كلما أرادت انتحال شخصية الجدة لتروي حكاياتها التي لا تريدُ أن تصمت لبرهة وتريحها؟!

أحبتكِ الطفلة يا جدتي.. يكفي أنكِ كُنتِ أماً رائعة لفتاة جميلة هي أمي، ويكفي أن منحتني هذا الاسم الذي أحُبْ، رغم أنّه اسماً متعباً محرضاً للحكاياتِ إلا أنني ألمحُ ردة فعلِ طيبة كلما عرّفتُ به نفسي للآخرين، أياً كان دينهُ أو بلده، فإن هذا الاسم يعني له الكثير كما كان يعني لك وبات يعني لي. شكراً لك يا جدتي أن أعتقتني من مغبة حملِ اسم لأحد الأموات.

لا أعلم إن كان يصحُ أن اعتبُ عليكِ الآن وأعتبرُ أنكِ شوهتِ جميل صنيعكِ ذلك عندما أثقلتِ على حفيدتكِ ذات الستة أعوام بوصيتكِ تلك، اسمي ابنكِ في المستقبل بـ...

الحكايات لا تتوقف، وبعضها تمنحنا عواطف مختلفة، هل ستغضبُ روحكِ إن تمردتُ على الوصية؟ أم سأكون ساذجة أمام ناظريّ طفلُ ما زال قدره بيد الرب وأنا أحكي له حكايةً عن الجدة التي وهبت له اسماً قبل عشرين عاماً أو أكثر ممازحةً حفيدتها !؟

كان حُلمكِ اسم طفل حفيدتكِ وكان حلم الحفيدة أن تطولَ ضفيرتها بضعَ بوصات؛ ليبدو ذيل الحصان طويلاً وهو يتراقصُ على ظهرها تماماً كالذي تتأملهُ في الفتياتِ الأكبر منها سِناً !

ابتسم للسماء... يا للمونولوج الساذج الذي لا يريدُ أن يختنق ليتيح لي فرصة التنفس، أكانت لي جدة؟! أكنتُ حفيدة لعجوزِ لا تملكُ من زوادة الحكايات ما يحميها من النمنمات، أم هو الكاتب (رجل يكذبُ بصدق) كما تقول مستغانمي... سأخبئُ الحكايات تحت ظلِ نخلة سامقة، علًّ سحرة الأرضِ يديرونَ باطنها ويسترقون السمع إلى السماء فيأتونَ لطفلة بنجوى وصلوات الجدات.

تعليق عبر الفيس بوك