البئر المهجورة

أحمد الرَّحبي

ظلَّ شبح الخوف يُرابط دائما متسلحا بحجر، في دروب وطرقات الطفولة؛ فدائما ثمة مجنون هناك يخفر هذه الدروب والطرقات متسلحا بحجر الفلاسفة يشج به الرؤوس، يثير الهلع والفزع في النفوس الصغيرة؛ حيث يقال دائما إنَّ الجنون حكمة فائضة لم يغادرها العقل إلا ليستعيده شفافا في أسئلته ناضيا عنه الأجوبة النمطية المعتادة؛ وذلك بالدخول في اختبار جديد من الأسئلة التي تمتحن العقل على ضوئها، نار جديدة مشتعلة يوريها في كل شيء، محرقا بها المخطوطات القديمة للحكمة المتعارف عليها؛ إذ في مغامرة غير مضمونة النتائج يشرع الجنون دائما في تأسيس حكمته الجديدة التي تلغي العقل القديم المبني على التوافقات، جنون لابد منه ليعيد العقل بعد أن استكان واستسلم ليرتحل من جديد بحثا عن معين الحكمة في منابعها القصية.

****

لقد أعيا الطفل معرفة سبب معقول على مستوى منطقه الصغير يجعله يتقبل تحذيرات أهله من الذهاب الى منطقة البئر المهجورة القريبة من بيتهم، ويأخذها مأخذ الجد، لا يتصور أبدا بأنَّ الآبار عدوة للأطفال خاصة المهجورة منها، ولا يتصوَّر أيضا أن البئر المهجورة لديها مشكلة مع طفل مهما كان مشاغبا وسيئ السلوك، لقد اختلس الفرصة ذات يوم من وراء أهله وذهب بخطوات متعثرة يقوده فضول الاكتشاف ليقترب من الحافة الخطرة ويطل برأسه الصغير على عمق البئر المظلم، ووسط الظلام المطبق كان هناك في الجانب الآخر يتلامع خيال غامض وملامح لهيئة غير مكتملة المعالم تحرض الطفل لمواصلة مغامرة اكتشافه، وتدعوه بتودد خبيث شرير للاقتراب أكثر من الحافة، وكان هو بعناد طفولي يرى برغم ما يحيط به من نوايا خبيثة وشريرة يزفر بها عمق البئر المظلم، بأن مغامرته في البئر المهجورة لم تبلغ أوجها بعد، فها هو يبدأ في صياغة فحوى خطاب بحركات يديه في البداية وبكلمات زاعقة من ثم، موجَّه إلى عمق البئر والهيئة الغامضة غير مكتملة الملامح في الأسفل، خطاب لم يكن من جواب له سوى صدى راعد انطلق من أسفل البئر، زرع الخوف في نفس الطفل وأنبت رعبا في داخله من المكان، مستحضرا في نفس الوقت تحذيرات أهله وإلحاحهم عليه بشكل مستمر بعدم الذهاب ناحية البئر المهجورة. وفي النهاية، جعله ذلك الأمر يتخلى عن استكمال مغامرته والعودة الى أهله سالما.

****

العقل الحقيقي هو أسد، في كل مرة يفترس نفسه بأسئلة جديدة؛ فبهذا الافتراس المتكرر من الأسئلة يعيد العقل تجديد نفسه، وعندما يتوقف العقل عن افتراس نفسه بالأسئلة ينزل من مرتبة الأسد إلى مرتبة حمار حكيم يمضي منقادا خلف الأجوبة القديمة بلا أدنى فرصة بامتحان هذه الأجوبة بأسئلة جديدة أو اختبار قناعاته التي استقر عليها المستمدة من الإجابات القديمة، وفي مرتبة أدنى من مرتبة الحمار الحكيم، يكون العقل ثور أهوج تستفزه الأسئلة المطروحة ليس تمعنا بها أو محاولة عقل مضمون الطرح الذي ترمي إليه، ولكن تمسكا بالأجوبة القديمة التي تجعل منه رهين ربقته في وسط مشقة الكد والعمل بلا جدوى، في معصرة لا تعطي أدنى قطرة زيت لإنارة سراج الحكمة والتفكر، وفي مرتبة تالية يكون العقل ببغاء يردد الأفكار ويتبناها في بطريقة النقل التي تعفيه من تمحيص هذه الأفكار وإعادة التفكير فيها من زاوية مختلفة، وفي أدنى مرتبة يكونها العقل، هي مرتبة الكلب النابح الشرس الذي يظل يكرر صدى نباحه بكل عنف وشراسة في وجه الآخرين؛ فهو لا يتنازل عن قناعاته الفكرية، بل يحاول فرضها بشراسة على الآخرين؛ حيث يصل به الأمر إلى حالة من السعار الفكري تثير الرثاء نتيجة الانغلاق في الفكر والتكلس حول قناعات ثابتة لا يفارقها أبدا، فأي هذه المراتب الخمسة للعقل، تعبر عن حالة العقل العربي والإسلامي المأزوم، في وقتنا الراهن؟!

تعليق عبر الفيس بوك