دعك منك

جمال القيسي

يقول لي الضجر: دعك، يا رعاك الله، من خدعة رأسمالية كبيرة اسمها "العمل قيمة عليا".. هذه كذبة الفقراء، على أنفسهم، (مهما علت دخولهم).. يملي علي الكسل والسأم كي أقول: كل صباح يصحو عدة مليارات من البشر للتوجه إلى عقوبة عالمية جماعية اسمها (العمل). وهي الشكل الأكثر بشاعة للعبودية.. وجه قبيح من وجوه المذلة، والحاجة الإنسانية لسنبلة القمح وحبة الدواء. أتحدث عن الغالبية، وهي بالمليارات، لا عن أرقام تافهة لا تمثل الأغلبية المرهقة بأسواط الحاجة المذلة، والبعد عن من يحبون وما يألفون من أول منزل.

تدفعني اللا جدوى لأبوح: كم من شخص من هذه المليارات يحب ما يفعل طوال ذل يومه، وهمّ ليله؟ الملوك، حتى الملوك أنفسهم، ملوا أدوارهم حيث إنّ السلطة، وإن كانت الأفيون المدوخ والمريح، في آن معًا، إلا أنّها مع الاستمرار والتعود لا تؤتي ثمار البهجة الخادعة الأولى من الراحة الكاذبة. وكذلك، يا رعاك الله، فإنّ هناك من درجوا آلاف الأعوام على قول رعتك الآلهة (شئت أم لم تشأ). وأزيدك وسأتابع؛ فقد كان خير التمني لرعايتك قولهم لحقب طويلة مديدة: فليرعك بعل (إله المطر) أو أفروديت (إلهة الحب) أو كيوبيد إن أحببت التذكير التسلطي على من ولدتك. ولم تأت هذه الإحالات للغيب عن عبث كما تعرف.

نتابع..

كم من مُتسلط يودُ لو يتّسع فضاء تسلطه حتى يشمل هذه المليارات جميعًا. فيهنأ بدوامة السلطة (الخادعة الزائفة كما أخبرتك) حتى يصل إلى التحكم في تفاهة الوهم بامتلاك ذاك الأفيون الفاسد الذي سيسأمه بعد حين. وكم من مأفون صغير بريء ومعطوب النفس يتمنى لو يملك وسائل إبادة المتسلطين جميعًا.. كم من رجل من هذه المليارات راضٍ عن نفسه ووضعه الاجتماعي؟!. وبمناسبة الاجتماعي، وهو لا ينفصل عن الاقتصادي العبودي، كم من هذه المليارات من البشر يحب زوجته.. كمكون ثنائي أحمق جاء بمحض الصدفة الكونية العمياء، والثقب الأسود وما الأسود؟

كم من امرأة تتمنى لو تنشق الأرض فتبتلع حياتها وزوجها؟

كم منهم (هؤلاء أو أولئك..حسب وعيك) من يتمنى لو أنّه يمتلك المال بلا عدد كي يسترخي في قصر منيف في كل بلد شهرا على الأكثر، ويذرع صالات المطارات وأفخم الفنادق!

كم من هؤلاء المليارات متعب، ويسحقه الفقر والغباء، بلا هوادة ولا رأفة، فيمني نفسه بحياة أخرى مريحة أكثر مما يجب، في دنيا أخرى تعوضه ذل ومكابدة وجحيم هذه الحياة الفانية حتى ولو من خلال قتل، من لا يوافقونه الرأي بهذه الحياة الدنيا الفانية!

كم كم وكم.. كم موجعة هذه الكم.

فيا صديقي، أو عدوي، وهي لا تختلف كثيرًا إذا احتكمنا إلى النسبة والتناسب في المجرة وماذا تعني العداوة والصداقة بمقياس الفضاء اللامنتهي. يا هذا أعرض عن هذا. هذه المليارات من البشر أقنعت نفسها بأنّ هذا هو الواقع وعليها أن تتقبله لأنّه الواقع.. وبتصغير الفكرة الكبرى كون الفكرة أكبر من الدولة؛ كم من إنسان .. موظف يتمنى لو أنّه يملك القدرة على صفع وضعه. زبونه/ مديره، والصراخ في وجهه: أنت أتفه إنسان، لا أتشرف بالتعامل معك. وأنا أحق منك بالمنصب! ويا لتفاهته من منصب!

كم من سعيد في هذا الكون التعيس. وتعيس في هذا الكون البليد. لا يحس الموسيقى، وهي بالمناسبة حالة من التواطؤ النفسي على الوجع الأكبر بلياقة مناسبة لتحمل السخافة الكونية، وتخلص من فكرة انهزامية تؤجل السعادة إلى حيز زمني ومكاني لم يره أحد، ولم يعد أحد من الموت للإخبار أن السعادة أو الشقاء هناك.

وسائل قد يسأل: كيف.. أو يتجرأ بمصارحة النفس، وطرح سؤال مفترض، يقال كل دقيقة ولا يقال: لماذا كل هذا؟

أرد: أنا معك، لكني سعيد بأني انتهيت من الأوهام فلم أعد أسأل.

إلى اللقاء.

تعليق عبر الفيس بوك