القدر المرعب

عيسى الرَّواحي

وبينما كُنت في المكتب عاكفا على أعمالي، إذْ باتصال هاتفي من أحد أفراد أسرتي، فأرد عليهوإذا بصوت مُلعثَم مُرْبَك يرتفع فيه صوت النحيب "أسرع.. أسرع، أمك سقطت على الأرض، ولا تتكلم، ولا نفس فيها". أغلقتُ الهاتف، وكأنَّ سهمًا قد أصاب قلبي، وحجرا من أعلى جبل سقط على رأسي، فخرجت خائفا مذعورا مهرولا تاركا كل شيء ورائي، لا أرى من أمامي، ولا أسمع مَن بخلفي، والدنيا قد أظلمت في وجهي، ولما وصلت البيت في سرعة لا أكاد أصفها -ولكنني أجزم أنها تضاعفت ثلاثة أضعافلِما ملك النفس من شعور الخوف والجزع والهلع- إذا بي قد سبقني من أخذها إلى المستشفى، وكان نحيب الباكين في البيت قد أفقدني الأمل، وأسرعوا بتأكيد الأجل، فيا الله..يا الله، لطفك بأمي ورحماك بها!

ركبتُ سيارتي ولست أدري كيف هي الأخرى أشد سرعة وعجلة مني، وكأنها تسارع الزمنلأجل أن تصل إلى المستشفى؛ لتجد الخبر اليقين، وفي سرعة ندمت عليها فيما بعد، وحيث الدموع تنهمر، والنحيب يرتفع، والقلب يخشع كما لم أعهده قد خشع من قبل؛ يخشع خائفا من هول ترقب اللحظات القادمة، ويخشع خاضعا لله متذللا بدموع غِزار أن يطيل عمرها، ولا يفجعنا برحيلها فهو وحده القادر لا غير، وهو من بيده الأمر، وحيث ازداد تبتُّل الدعاء، أتذكر أنه إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؛ فيزداد حينها البكاء دون وعي أو شعور، وأنا بعد لا أعرف الأمر، ولم يصلني الخبر، ويمر على مُخيلتي سريعا -بسرعة السيارة- شريط الذكريات مُكوِّنا كابوسا مدلهما بغرابيب السواد الحالك أكاد أفقد على إثره البصر، فيا الله.. يا الله، لطفك بأمي ورحماك بها!

دخلتُ الطوارئ دون سلام أو استئذان باحثا عن القلب الرحيم والجسد العظيم والظل الظليل واليد الحانية، مناديا باكيا: أين أمي؟ أين أمي؟ وإذا بالأطباء حولها وهم يحاولون إنعاشها بشتى الطرق والوسائل، وأفئدتنا هواء وقد بلغت القلوب الحناجر، والأقدام بالكاد تستطيع حمل أجسادنا المنهكة بصعوبة تلك اللحظات التي هي أصعب لحظات الحياة وأقساها، ولكن الأمل بالله كبير؛ فهو من يعرف كيف سيكون حالنا لو وقع ما وقع دون سابق إنذار، ودون أن يخطر على بالنا كذلك، فيا الله.. يا الله، لطفك بأمي ورحماك بها!

يُلزمنا الكادر الطبي إكراهًا بالخروج؛ فنخرج لعل بيدهم شيئا سيكتبه الله على أيديهم، ونحن نتضرع إلى الرؤوف الرحيم العزيز الخبير أن نراها وترانا، ونكلمها وتكلمنا؛ فهي الحياة ورمز الحياة، وهي الكون وعنوان الكون، وهي الحب وتاج الحب، وكيف بحياة من غير أم؟! فيا الله.. يا الله، لطفك بأمي ورحماك بها!

وقفنا وأقدامنا عاجزة عن حملنا، والدموع منسابة على خدودنا، ودقات القلب تزداد سرعة وخفقانا، وما هي إلا لحظات ويخرج لنا الطبيب حاسر الرأس قائلا في لحظة سادها الصمت وتوقفت القلوب: "ادعوا لأمكم بالرحمة، فكل نفس ذائقة الموت". آآه يا ربي، وأي آهات، وكأن صاعقة من السماء نزلت فأحرقت القلوب، وأذابت الكبد والفؤاد، وأفجعت المسامع، فانبجست سحائب الدموع فسالت شعابا مثقلة بالأحزان والأشجان، وارتجفت الأرض من تحت أرجلنا مُفجِّرة براكين الأسى والحزن والحسرة؛ فخارت قوانا وانهدت أجسادنا، وانخذلت أقدامنا أن تحملنا رغم الصحة وريعان الشباب، واسودت الدنيا وادلهم ظلامها رغم ضياء الشمس في وضح النهار، واكفهرت الحياة وعبست في وجوهنا رغم نعم المال والولد، فيا الله يا الله ما أشأمه من يوم وأتعسه من خبر، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

كيف بدنياي وقد غابت شمسها؟! وكيف بلياليها وقد أفلت نجومها وقمرها؟! وكيف بحياتي كلها ولست أنادي أمي فيها؟

أيُعقل أن مفتاح الجنة قد فقدناه وودَّعناه؟! أيعقل أن باب الجنة في الدنيا قد أُغلق وأُوصد؟ أيعقل أن صاحب القلب المشفق الكبيروالفؤاد الرؤوف الحنون قد فارقناه؟! أيعقل أن من تُظلنا بعطفها وحنانها وشفقتها ورحمتها قد رحلت عنا؟! أيعقل من كانت بجانبنا ليلا ونهارا صُبْحا ومساء في غدائنا وعشائنا وفطورنا وسحورنا وقهوتنا وجلستنا وصحتنا وسقمنا قد تركتنا؟! وكأني أتحسَّس الدموع الغِزار التي أحرقت عيناي؛ لأنظرها إن كانت دما أم دموعا، متحسرا نادما كارها نفسي بجسدي على كلمة (أف) صغيرة المبنى قليلة المعنى قلتها في وجهها، ناظرا إلى حالي ببؤس بأني لئيم الطبع على كل اعتذار بعمل أو تعب قدمته لها، عاضا على أصابع الندم والحسرة عن كل يوم لم أستجب فيه لأمرها، أو أغضبتها وكدرت صفوها وخاطرها، أو لم آخذ بمشورتها ورأيها، أو أنني غضبت وتأففت وتضايقت من مهمة لي أوكلتها، مُمنيا نفسي بالأماني الفارغة أن يعود الزمن فتعود يوما فأخدمها بعيني، أو ساعة أجلس بجانبها مُقبِّلا رأسها ويديها ورجليها، آنسا بحديثها وطيب رائحتها وناهلا من دعائها وبركاتها، أو دقيقة فأقدم لها جُلَّ اعتذاري وأبكي تحت أقدامها طالبا صفحها وعفوها -وإن كنت أعلم أنها عني راضية- أو لحظة أقبل فيه رأسها ويدها، ولكن هيهات هيهات فما عاد يحيا من مات، وما عاد يفيد الندم والتحسر على ما فات، وما عاد يعود الزمن، وما عاد يجدي الوهن والحزن، فيا الله.. يا الله، ويا حسرتاه على ما فرطت من أيام وليالٍ وأوقات وساعات ودقائق ولحظات في النهل من خيرها ودعائها وخدمتها وطاعتها وبرها! وكأني أرى الدنيا جمالها ومالها وزخرفها عند الذين أمهاتهم أحياء وإن كانوا فقراء مرضى، فهي لهم ضياء الشمس ونور القمر ومصباح الظلام وطيب الحياة ورائحتها الزكية وحديثها الآنس، وهي لهم السمع والبصر والفؤاد، وهي لهم زينة الكون وجمال الحياة، وأما أنا وأمثالي فلا مجال لمقارنة حياتي بحياتهم وأُنسي بأنسهم وسعادتي بسعادتهم مهما بلغت من مال وولد ومسكن ومأكل ومشرب، فيا الله.. يا الله، ما أغناهم وأفقرني! وما أسعدهم وأحزنني! وما أنعمهم وأشقاني!

كيف ستكون الحياة من بعدك يا أمنا العظيمة؟! فقد كنت ذات يد في كل نعمة من نعم الله علينا، وكنت لنا في كل بقعة من بقاع الأرض مسكنا، وكنت لنا في كل لحظة من لحظات الزمن تاريخا وذكرى وسجلا حافلا بالحب والحنان والشفقة والرحمة والفيض والعطاء، فكيف يغيب عن ذاكرتنا عهد الطفولة الأول وحقبة الدراسة وذكريات الشباب، وأنت كل شيء في كل شيء؟! وكيف يغيب عن ذاكرتي عندما آتيك عقب صلاة الفجر وأجدك عاكفة على المصحف الشريف مرددة مع القلم القارئ آيات الذكر الحكيم، وأقول في نفسي ليتنا مثلك في هِمَّتك رغم قلة صحتك وقلة زادك من العلم، وكيف أنساك قبيل ذهابي إلى العمل وصوت مذياعك قد علا بطيب الكلام وأنت في همة ونشاط تُطعمين غنماتك، فأستودعك الله، فتردين: قدامك الرحمن (أي: حفظك الرحمن؛ وهو دعاء كان لنا وقاء عند كل وداع لك)؟! وكيف يغيب عن مشهدنا كرسي الصلاة وسجادتها وحصير الغرفة وثلاجتها وسريرها وتلفازها؟ وكيف يغيب عن ذهني مائدة الطعام في ليلها ونهارها التي نجتمع عليها؟ وكيف ينحذف من مسامعي سؤال السائلين: "كيف حال الوالدة، وسلِّم على الوالدة"؟ وكيف يتوقف إشعار رنين الهاتف "أمي الغالية يتصل بك"؟! وكيف سيكون حالي وقت الفطور والسحور في رمضان الفضيل وأنت لست بيننا؟! وكيف سيكون صباح عيدنا وجميع أفراحنا وأنت قد رحلتي عنا؟! حياة من غير أمٍ كيف ستكون؟! أم تجمع الأولاد والأحفاد، أم تنزل بسببها بركات السماء ورحماتها، أم تمرض لأسقامنا، وتحزن لأحزاننا، وتأسى لهمومنا، وتفرح لأفراحنا، وهي الكل في الكل في كل شؤون حياتنا! فيا الله.. يا الله، كيف الحياة بدونها؟!

فجأة.. أستيقظ مذعورا بعد نوم مشؤوم وجسدي يتصبَّب عرقا، ولم أكد أصدق أنني في حلم وليس حقيقة، لم أكد أصدق أن فاجعة الاتصال، وصاعقة الطبيب كانتا في عالم الكوابيس والأحلام، ولم أكد أصدق أن أمي لا تزال بخير وعافية؛ فقد كان حلما وكأنه الحقيقة من شدة كوابيسه وآهاته.

حمدتُ الله حمدا كثيرا، وامتلكتني سعادة بالغة وراحة كبيرة أنَّ لدي أما لا تزال بيننا، مُوقنا أن عالم الحلم سيصبح حقيقة يوما ما، فإما أن أكون معها فاقدا أو مفقودا، ولكني حتى ذلك الحين الذي لا أدري أجله، أيقنت يقينا جازما، وآمنت إيمانا مطلقا أن الحياة لا تزال جميلة ما دامت الأم مطلة بجمالها وبهائها على أبنائها، ولا يزال الكون مضيئا مشرقا ما دامت الأم تشرق على أبنائها بضيائها ونورها، ولا تزال الأيام بخير ما دامت الأم تتدفق بعطائها وخيرها على فلذات أكبادها.

فيا أيها الأبناء، بروا أمهاتكم قبل فوات الأوان، وأحسنوا إليهن قبل انقضاء الأعمار، واغتنموا فضلهن قبل الحسرة والندامة، واحذروا أشد الحذر أن تغضبوهن أو تكدروهن، وتذكروا أصدقاء لكم وزملاء بينكم قد فقدوا هذا الكنز الثمين والقلب الكبير والخير العميم والفضل العظيم، وتذكروا قول الله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًاوَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء:23-24) صدق الله العظيم.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك