"يوسف أيها الصّديق أفتنا"

عمار الغزالي
يستغل النّاس المُناسبات الاجتماعية لتبادل أطراف الحديث والإفادة والاستفادةوخاصة في المسائل العامة التي تمس حياة كلفرد منهم وهذا من حقهم ومن واجبهم أيضا. ومع استمرار معدل الأسعار العالمية للنفط بالأسعار الحالية ومع استمرار خضوع اقتصادنا الوطني تحت رحمة الموارد الناضبة يتصدر هذا الموضوع بجدارة جميع العناوينفي كل مكانفي المكاتب والمجالسوالمقاهي وحتى في العالم الافتراضي عبر المدونات والسبلات الإلكترونية والواتس آب، كم سيبلغ العجز بنهاية العام الحالي، وكيف سيغطى، وما هي خطط الدولة لسد العجز في الأعوام القادمة وماهي تبعاتها على المواطن وكيف نستفيد من هذا الدرس؟

الفترة حساسة اقتصادياً، وتحتاج إلى عناية فائقة ودراسة عميقة قبل اتخاذ أي قرار ارتجالي، سمعنا هذه الهواجس حتى منالكثير من القيادات والمسؤولين بشكل غير رسمي أكثر من الرسمي بالتلميح وأحيانا بالتصريح، أما عن الجمهور فالمتابع للرأي العاموالمهتم به ستتضح له هذه المخاوف وضوح الشمس في رابعة النهار.
والحق أنّ الكثير من هذه المخاوف في محلها حيث إن الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل وإلى اقتصاد إنتاجي قوي لا يختلف عليها اثنان،وحتى نصل إلى هذه المرحلة سيستمر الوضع الاقتصادي للدولة بين مطرقة الأسعار العالمية وسندان انتهاء المخزون الناضب.
إن موضوع بناءاقتصاد قوي مستدام موضوعمتشعب ومتفرع ويحتاج إلى الكثير من الدراسات والبحوث وورش العمل وجلسات العصف الذهني والتشاور مع كافة الأطراف ذات العلاقة للخروج بإستراتيجية واضحة. وفي حقيقة الأمر الأولى الحديث عنه وقت الرخاء وارتفاع أسعار النفط حيث الخيارات متاحة ولكن من طبيعة البشر للأسف النسيان وقت الرخاء والتذكر وقت الشدة مع أننا نعي منذ أيام الصباالحكمة القائلة "خبئ قرشك الأبيض لليوم الأسود"، أما أوقات الركودوشح الموارد فالخيارات المتاحة قليلة وجل التركيز يكون على توفير الأساسياتوسد الالتزامات، ويفترض أن نجني الآن ثمار السياسات الاقتصادية الناجحة أوقات الرخاء وهذه هي طبيعة الدورة الاقتصادية منذ الأزل.
الموضوع واسع ولايمكن اختزاله في مقال، ولكني سأذكر هنا بعض الإشارات المهمة والدروس المستفادة من قصة سيدنا يوسف عليه السلام حيث إنها نموذج عملي لفهم طبيعة الدورة الاقتصادية وكيفية التعامل معها، الدرس الأول من قصة يوسف هوالتحول من ثقافة الاستهلاك الى ثقافة الادخار ((قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون (47)ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون(48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون(49) )) ، الدورة الاقتصادية سنة من سنن الحياة لابد أن نتقبلها ونتقبل التعامل معها، أوصاهم يوسف عليه السلام بالعمل الدؤوب والجاد أوقات النمو والازدهارالاقتصادي لزيادة الإنتاج ثم الترشيد في استخدامه وتوفير الباقي، علينا أن نعلم أنفسنا ونربي أبناءنا على ضبط النفس وعدم التوسع في الكماليات والماديات غير الضرورية، إن التوازن في الإنفاق خلقٌ راقٍ سامٍ نبيل حض عليه الدين الحنيف، كما أنه السمة الغالبة في مجتمعاتنا وطريقة حياة أسلافنا وأهلنا،ولأهمية الموضوع فلقد وجه مولاي جلالة السلطان المعظم في أحد خطاباته الكريمةإلى شعبه الوفي داعياً وموجهاً إلى الترشيد والحكمة في الإنفاق، إن عجبي لا ينتهي من المكَبَّلين بديون وأموال يتلفونهافي كماليات، يفضلون العيش في هموم الدين مقابل ترف زائل.الدرس الثاني الذي أعطانا إياه سيدنا يوسف عليه السلام هو أن الإصلاح الاقتصادي الجذري يحتاج إلى قرار من القيادات العليا في الدولة، فكلما كانت القرارات ومتابعة تنفيذها على مستوى عالٍ كلما استجابت بقية أجهزة الدولة بسرعة ومرونة،وذلك لما للشأن الاقتصادي من أهمية بالغة على حياة الناس وهو من أسس الدولة المدنية وهو أساس الاستقرارالاجتماعي والأمني والسياسي لأيّ دولة، الدرس الثالث هو وجود خطة واضحة تفصيلية لإدارة شح الموارد كما عرضها سيدنا يوسف عليه السلام بقوله (تزرعون سبع سنين دأباً...) إلى آخر الآية الكريمة، إنالوصول للهدف مع وجود الخطة ليس بالأمر السهل بل يحتاج الكثير من الجهد، أما بدون خطة فيصبح النجاح ضربًا من ضروب الخيال والتمني، فكما يقال إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل، الدرس الرابع هو اختيار القيادات المناسبة، ولقد لخص سيدنا يوسف عليه السلام معادلة تولي المسؤولية بقوله (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) ، فالأمانة وحسن السيرة والسلوك مع القوة والكفاءة هما جناحا تولي زمام الأمور،ولأنّها مسؤولية كبيرة وتكليف قبل أن تكون تشريفاًوهناك قوانين في الدول المتقدمة لتولي الوظائف القيادية تضمن الحد الأدنى من الكفاءة والأمانة بل تصل أحيانا إلى إجراءات إضافية مثل اختباراتالذكاء والإمكانيات الذهنية مثل سنغافورة وذلكلضمان أفضل اختيار ممكن،الدرس الخامس هوالاستثمار أكثرفيما هو متوقع أن ينشط الركود الاقتصادي، قد تحضر فكرة الادخار بداهة وقت الركود لكن فكرة الاستثمارتغيب تمامًا بحكم شح الموارد أوقات الركود، إن مما لا غنى عنه الآن هو أننا بأمس الحاجة لزيادة الاستثمارالأجنبي ورفع كفاءة الأداء الحكومي وتمكين القطاع الخاص، وأي صرف مدروس في هذه الأهداف هو استثمار استراتيجي وليس هدرا أو تبذيرا، وهذا ما فعله سيدنا يوسف عليه السلام للاستعداد لفترة الركود عندما قال تزرعون سبع سنين دأبًا ففيها دلالة واضحة على ضرورة زيادة الإنتاج وهذا يحتاج المزيد من العمال والمزيد من البذور والأدوات الزراعية مما يعني المزيد من الاستثماروأيضاً فيها دلالة على ضرورة تحسين كفاءة الأداء. الدروس السادس من القصة العطاء والإخلاص والتفاني للوطن وعدم تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة فلم يشترط عليهم الخروج من السجن ليخبرهم بالحلول الاقتصادية بل أعطاهم خطة الإنقاذ كاملة وتفسير الرؤيا وهو بالسجن وبدون شروط كما هو مذكور في سورة يوسف، كثير من الناس يعيشون لأنفسهم فقطوقد يبخلوا حتى بالنصيحة والعلم النافع وقد نسوا أن العلم يزكو ويزيد بالإنفاق، الأخلاق الإدارية والوظيفية لها دور كبيرفي بناء الأمم، لقد أصبح علم يدرس في أقوى كليات الاقتصاد بالعالم تحت مسمى الاقتصاد والأخلاق، وسنتطرق إلى هذا الموضوع بشيء منالتفصيل في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.

يوسف أيها الصديق..سلام الله عليك كم كانت حياتك كلها عطاء وتضحية وجمال، لقد ركزت على العمل ونفع النّاسوتركت الهدم والقاء اللوموالانتقام .. إنها عبقرية البناء .

أيها الصديق يوسف...عليك وعلى إمام الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

تعليق عبر الفيس بوك