اعترافات مصوّر في نظام بشار!

ليلى البلوشي

كنت أعتقد أنّ ما نشره الكاتب السوري ممدوح عدوان في كتابه (حيوّنة الإنسان) من أهوال تعذيب الجسد البشري وتحطيم كيانه الإنساني كليّا، وكيفية تعاطي الأنظمة مع الجثث، وكيف أنّهم يقومون بإخضاع وتطويع جنودهم للتمثيل بتلك الجثث البشرية وتشويهها كما لو أنّها حيوانات خُلقت لتُعذّب بوحشية، بضمير ميت ومشاعر باردة، كنت أعتقد أنّه كان يبالغ بطريقة ما لاسيما وأن تفاصيل كتابه كانت في زمن ما قبل الثورات العربية، في ذلك الزمن أجل كنّا نسمع أنّ النظام البعثي يده من حديد على كل من ينقد السلطة، لكنها وقتئذ كانت تمارس وحشيتها بطريقة سرية للغاية؛ لتبقى صورتها ملمّعة أمام عدسات العالم، ولكن الآن، في زمن اهتياج الشعوب صارت تمارس استبدادها بطريقة علنية أمام العالم كله فالقناع سقط، سقط تماماً، وصار شيطانها ينفث سمومه بجنون في سبيل الالتصاق بكرسي الحكم!.

وما قامت به صحيفة الجارديان من نشر مقابلة مهمة مع مصوّر بشار، الذي كان يعمل في الشرطة العسكرية، وكان عمله يختص بتصوير الجثث التي تموت أثناء التعذيب الجسدي في سجن النظام والمتظاهرين الذين يتم تصفيتهم أثناء المظاهرات السلمية هي خطوة جريئة لفضح هذا النظام الفاشي!

اعترافات هذا المصوّر نشرت باللغة الإنجليزية، وقام الكاتب والمترجم السعودي خالد العوض بترجمتها إلى العربية ونقلها للعالم عبر حسابه بتويتر.

يحكي المصور حكايته بالتفصيل مع كتمان بعض الأمور التي تخفي شخصيته، خوفاً من مطاردة النظام المُجرم، فقد كانت مهنته تنحصر في عمل يتطلب سرية تامة، فالآلة في يده ستكشف طريقة هذا النظام الوحشي، وتفضح تعاطيه مع شعبه، طالما كنّا نسمع ونقرأ عن هذه الحيوانية التي كان نظام بشار يُمارسها بكل حقد تجاه شعبه غير أنّ ثمة هناك من كان ينكرها، أولئك الذين باعوا ضمائرهم للنظام كانوا ينكرون ويتبجحون بأنّها مجرد إشاعات كيدية يروّجها كارهو النظام، لكن اعترافات المصوّر والوثائق المصورة التي التقطها بعدسته تؤكد أنّها كانت من قلب الحقيقة.

يسرد المصور كيف كان يُطلب منه أن يتوجّه إلى مكان إطلاق نار لتصوير الموقع ثم يذهب إلى حيث تحفظ الضحايا في ثلاجة الموتى لتصويرهم، يقوم بتصوير الجثث من 1 إلى 30 ثم يطلب منه الخروج فورًا "نأخذ لقطات متعددة للجثة الواحدة؛ لكي تسهل عملية البحث. للوجه. كل الجسم. اليدين. والصدر. الأطراف".

هؤلاء الضحايا الذين قتلهم النظام، كان الضابط المسؤول يقول عنهم بأنهم إرهابيون، لكن المصور يؤكد بأنّهم كانوا في مظاهرة سلمية وأنهم مجرد متظاهرين سلميين وكان زميل له يبكي قائلاً: الجنود شوهوا الجثث كانوا يسحقونهم بأقدامهم ويقولون : ابن الزنا..!

أما السجناء فأنكى أنواع التعذيب وأشده كان من نصيبهم، كان يرى المصور أثناء التقاط الصور الأخيرة لهم آثار شمع محترق على الجسم، وآثار موقد غاز على وجوه الضحايا وشعرهم، كانت علامة الموقد الدائري المعدّ للطبخ مطبوعة على الأجساد، ليس هذا فحسب، بل كانت هناك جروح عميقة، مليئة بالقيح وملتهبة، لأنّها كانت مفتوحة طوال الوقت بلا علاج، أجساد كانت مغطاة بالدم، وكان الجنود يحركون هذه الجثث بأقدامهم بلا احترام "لم أر بحياتي شيئاً كهذا، كان النظام يُعذّب السجناء لاستخراج المعلومات، الآن يعذبّهم مستهدفاً الموت تحت التعذيب"!

لقد تخلصت تلك الجثث من عذاباتها ووجدت في الموت راحة لها من كل شيء دنيوي، لكن عذاب الضمير والرعب كان من نصيب المصوّر الذي كان يتخيل نفسه أو أحد أفراد أسرته مكان هذه الجثث المشوّهة، لقد عذبّت بشراسة حتى كان الموت راحتها بل كان يشعر بأنّ خوفه متمدد، خوف من الله عزّ وجلّ يوم الحساب "ماذا عسانا أن نقول عندما نسأل يوم الحساب: ماذا عملتم مع هذا النظام المجرم؟ لماذا بقيتم؟ هذه الأسئلة تخيفنا"، خوف من النظام وشره لاسيما وأنه شهد وحشيته بأمّ عينيه، فقد كان يصفّي الجميع بأنذل الوسائل الموجودة على الكرة الأرضية ثم يقتلهم "رأى سامي مرة من خلال فتحة الجدار جنودًا يجبرون شاباً على قول: لا إله إلا بشار، ثم قتلوه، لا أريد موتا كهذا".

والخوف من الثوار أيضاً؛ لأنّه كان في نظرهم مع النظام وليس مجرد مصوّر يقوم بعمله، هذه الأسباب المتكالبة عليه هي التي دفعته ليعترف بكل شيء رآه وشهده بنفسه لأحد أصدقائه المقربين، وبدأ ينقل له الصور بسرية تامة.

لقد استطاع قيصر وهو اسم حركي لحمايته تهريب أكثر من 55 ألف صورة رقمية في وحدة تخزين بيانات USB خارج سوريا، الصور التقطها بين عامي 2011م و2013م لأكثر من 11 ألف ضحية ماتت تحت التعذيب في السجون، وقد أقامت الأمم المتحدة في مارس الماضي معرضًا لجزء من هذه الصور مع التحفظ على شخصية المصور، من خلالها تمكنت صحيفة الجارديان بعد جهد طويل من الوصول للمصور لإجراء هذه المقابلة.

قام هذا المصور بشجاعة بنشر الصور وترويجها على الرغم من أن ذلك يكلفه حياته؛ كي يعرف العالم جرائم بشار في حق الإنسانية، في حق شعبه المعزول الذي فرّ أكثر من نصفه إلى خارج الديار وأصبح لاجئاً في معظم دول العالم، وعلى الرغم من ذلك المتحكمون بهذا العالم مازالوا يفاوضون السفاح بشار، لقد كان هذا الأمر محبطاً للغاية له ولكل من ساعده لنشر الحقيقة "نحن محبطون، توقعنا ردة فعل أقوى، بعد كل هذه الصور المروعة يقرر السياسيون التفاوض مع بشار"!

"الأصعب ليس أن يموت المرء، بل أن يموت الذين حوله كلهم ويبقى هو حيّاً" كما ذهب الروائي عبد الرحمن منيف، نحن الأحياء الأموات حقًا!

كم عليهم أن يموتوا معذّبين، وكم علينا أن نحيا لنتعذّب؛ كي نشهد كل الجرائم الإنسانية وأسوأها في تاريخ البشرية!.

يا طلقة الرحمة!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك