قضايا المرأة وآفاق تطوُّراتها في العالم العربي

 

مُحمَّد السَّالمي

إنَّ شُحَّ النصوص المترجمة لتطور الوعي العربي لواقع المرأة، واكتفاء الكثير بطرح مواضيع المعطيات المفسرة لواقعها. وعلى الرغم من قلتها، تمنح تصورات جزئية لأسئلة قادمة، وصراعات مُرتقبة لها القدرة على اختراق وتغيير التشريعات والقيم التي شكَّلت القواعد المحافظة للمنظومة الاجتماعية في مختلف الدول العربية.. يأتي الكاتب القدير جمال بن عبداللطيف في مقالته بعنوان "قضايا المرأة في الفكر العربي المعاصر"، ليبيِّن أنَّ موضوع المرأة بالذات -سواء بالفكر العربي أو الإنساني- والصورة النمطية السائدة عنها، خاصة ما يتعلق بموضوع مشاركتها في الحياة العامة، إنما هو محصلة موضوعية لتاريخ من التدبير الاجتماعي، والسياسي، والثقافي المعبِّر عن شكل من أشكال الصراع الدائر داخل المجتمع، وأنَّ أي تعديل مفترض في هذه النمطية القائمة، يقتضي إعادة النظر في القواعد والأسس والمعطيات المتنوعة التي سمحت بتركيبها وحصولها بالصورة التي اتخذتها.

وهذه المسألة تَسْتَدعي كثيرًا من العمل المتواصل من أجل الاقتراب منها؛ حيث يُشير الكاتب إلى أهمية عملية التحقيب؛ كونها تساعد على رَصْد ملامح حضور قضايا المرأة، وضبط مساراته، وعوائقه، وأنَّ الاستعانة بالتحقيب التاريخي لقضايا المرأة، سيُمكِّننا من بناء تصور للحظات في تطور أسئلة المرأة في فكرنا المعاصر؛ فهناك ثلاثة عناوين كبرى للتحقيب، وجميعها تأتي متتابعة ألا وهي: لحظة وعي الفارق، ولحظة وعي التحول، ولحظة المؤسسة.

أولا: لحظة وعي الفارق في أهمية التربية والتعليم:

ويقصد الكاتب بهذه اللحظة إدراكَ النُّخب السياسية والنخب المركِّبة لبرامج الإصلاح الفكري والاجتماعي بأنَّ المجتمعات الأوروبية تتميَّز بسمات محددة صانعة لقوتها وتقدمها، وأنَّ كلَّ تفكير في تجاوز أوضاع التأخر الحاصلة في المجتمعات العربية يقتضي الاستعانة بالأسس والمقدمات التي صنعت مظاهر النهضة والقوة في أوروبا.

وتقدم نصوص المصلحين -من أمثال: الطهطاوي، وخير الدين التونسي- في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جُملة من المعطيات الكاشفة عن ملامح هذا الوعي الجديد.

فعندما نقف على أعمال الطهطاوي، ندرك ملامح وعيه -بل وإدراكه- للفارق بيننا وبين أوروبا المتقدمة، كما أنَّه يبحث في الفكر السياسي العربي بلغة العمل والإنتاج، والمنافع العمومية، وكان من الداعين إلى الإصلاح القاضي بضرورة الانفتاح على مكاسب الحضارة المعاصرة. لم يكن الطهطاوي متغربا في كل ما أنتج، بل كان مدركا أن زمن التغيير قادم، وأنَّه لا يُمكن لأحد أن يعترض طريقه ووجهته. وفي هذا الإطار ينبغي إعداد العدة الفكرية المناسبة لمتطلبات التغير.

أمَّا بشأن المرأة، فإنَّ الطهطاوي واجه بقوة تلك الأفكار المسبقة السائدة عن المرأة؛ مثل: رفض تعليم النساء الكتابة والقراءة، أو وصفها بالمكر والدهاء ونقص العقل، أو حصر وظيفتها كالوعاء الذي يصون النسل...وغيرها من الاعتبارات الجاهلية؛ حيث يُلح الطهطاوي في لحظات مواجهته للخطاب التقليدي السائد في موضوع تعليم المرأة على أهمية العلم في الحياة، وأنَّ امتلاك النساء لملكتيْ القراءة والكتابة يُؤهلهن لتحصيل الأخلاق المرتبطة بالمعرفة، والمطلوبة في مجال التربية وإعداد الناشئة. ولم يكتفِ بربط متغير التعليم بالعمل، بل يفتحه أيضا على فضاء الزوجية؛ فقد أصبح التعليم معيارا من معاير التوافق الأسري، وأيضا التطرق لمواضيع حساسة مثل الاختلاط الذي لا يخل بالحياء.

ويُؤكد كمال عبداللطيف أنه لا يمنح الطهطاوي امتيازا معينا؛ حيث إنَّ إسهامات الطهطاوي تُمثل الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها، كما أنَّ أغلب المصلحين يتفقون معه من ناحية تغيُّر الصورة النمطية السائدة عن المرأة في المجتمع العربي، بل إنَّ عنايته بمتغير التربية والتعليم ستظل عنوانا مناسبا لموضوع إصلاح أوضاع النساء في العالم العربي إلى حدود يومنا هذا.

ثانيا: لحظة وعي التغير والتحول:

سنتجه في موضوع وعي التغير في اللحظة الثانية لتقديم بعض النصوص التي تبز مستوى التطور الجيد الذي عرفه الفكر العربي، وهو يركب تصوراته ومواقفه من قضايا المرأة في مجتمعنا المعاصر.

تقدم نصوص قاسم أمين في هذه اللحظة العناصر في باب رصد التحول في إدراك النخب العربية لطبيعة الوضع النسائي في المجتمع العربي؛ حيث إنَّ كتاباته أصبحت محطَّ اهتمام النخب المتعلمة في كثير من البدان العربية، بل إنَّ نصوصه لاقت تأييدا من الشيخ محمد عبده ولطفي سيد...وغيرهما؛ حيث إنَّ كتابيه "تحرير المرأة"، و"المرأة الجديدة"، يتميَّزان بالروح الإصلاحية الجديدة في فكر النهضة العربية، والتي تحاول رسم ملامح نقد قوية تضعنا على عتبة آفاق جديدة في النظر إلى واقع المرأة.

قام قاسم بطرح عدة مسائل؛ أبرزها: مسألة دونية المرأة في المجتمع العربي، والبحث في سبل نفيها وتجاوزها، ودونية المرأة تتمثل في: عدم الخروج من البيت، بدون عمل، والانفصال في الأكل، والمراقبة، والطلاق، وأن المرأة ليست أهلا للثقة...إلى غير ذلك.

أقرب قاسم أمين من موضوع تحرير المرأة بمقدمات فلسفية وأدوات ومفاهيم وضعية؛ وهو الأمر الذي منح خطابه تماسكا نفتقده في كثير من الخطابات الإصلاحية؛ فقد استخدم مفاهيم الجهة الاجتماعية، والوظيفة الاجتماعية، كما تحدث عن العمل كقوة منتجة للثروة الطبيعية والعقلية. واستند في كثير من مواقفه وخلاصاته في موضوع المرأة والأسرة على إحصائيات الطلاق، وقد عرضها في جدول خاص.

ويُشير الكاتب إلى عدم وضع قاسم أمين والطهطاوي في نفس الخانة؛ بحيث أن أعمال قاسم أمين تدل على نظرته الإصلاحية والتي تمتلك من السمات ما يؤهلها لتكون عنوانا لمرحلة جديدة، تتجاوز الحقبة الأولى. إنَّ لحظة وعي الفارق في تصورنا لا تتجاوز عتبة الإرهاص العام، وهي عتبة لم تستطع التخلص لا من اللغة التقليدية ولا من المأثور الوسيطي الذي مارس حضورا قويا في النص. أما "تحرير المرأة"، فقد عيَّن ملامح التغير ومتغيرات التعليم والأسرة والزواج بمنطق آخر في التحليل؛ ولهذا السبب تمَّ منح قاسم أمين امتياز الدفاع عن لزوم، وحتمية التغير، وامتياز تعميم الدعاوى الإصلاحية العامة المتبلورة في خطاب الطهطاوي.

ثالثا: لحظة وعي المؤسسة:

لم يُطوِّر الفكر العربي تصوراته وأطروحاته في مجال القضايا الاجتماعية المتعلقة بأوضاع المرأة العربية. ورغم الجدل الذي بلورته أعمال قاسم أمين في مطلع القرن العشرين، وما ترتب عليه من نتائج في مجال نشوء بعض الجمعيات التي تُعنى بقضايا النساء في مجتمعنا، فإنَّ قضايا المرأة أصبحت تحت دائرة حديث النخب ذات التوجه الحداثي أو اليساري.

لقد لعبتْ الأمم المتحدة دورا مهما في إبراز قضايا المرأة بدءًا من إعلان سنة عالمية للمرأة عام 1975م، ومن ثم إصدار التقارير التي تُبرز حالة المرأة في الدول النامية، وإبراز الأسباب التي أدت إلى استمرارية دونية المرأة، والتي تتمثل في: انعدام الإرادة السياسة والموارد المالية والثقافة السائدة التي تنظم التراتب الاجتماعي بين الرجل والمرأة.

كما أنَّ للعلوم الاقتصادية والاجتماعية، وعلم الإناسة، وعلم النفس والتحليل النفسي، ومفاهيم الثورة الجنسية وتطور الوعي بقضايا الحياة الجنسية، دورًا في إغناء التصورات والمواقف التي تتصارع لإبراز قضايا المجتمع والمرأة؛ حيث استطاعتْ هذه العلوم إحضار مفاهيم ومفردات وتراكيب جديدة؛ مثل: المساواة والعدالة والمشاركة والتمكين والتنمية الإنسانية.

ويُؤكِّد الكاتب أنَّ واقع المرأة في العالم العربي اليوم يستوعب متغيرات جديدة؛ حيث تتواصل فيها عمليات بناء واستحداث مؤسسات لتقوية قدرات المرأة. ومن هنا، تبرُز عملية التمأسُس في عدة محاور؛ مثل: محو الأمية، والوعي القانوني، والتضامن النسائي، والعمل السياسي...وغيرها، حتى الوصول لمفهوم تمكين المرأة.

تعليق عبر الفيس بوك