تحليل النص بمنهج "الإعراب"

 


نادية اللمكيَّة

لا يزال الحديث عن حقول تحليل الخطاب في جذبٍ وشد بين من يتشبثون باللسانيات في التحليل، وبين أولئك الداعين إلى توسيع المناهج، والاستفادة من مجالات التحليل الجديدة، في الوقت الذي أصبحتْ فيه إمكانية النشر والبث المعرفي حول العالم غير محدودة، وأصبح النص الواحد يحتمل ألوانًا مختلفة من القراءة تختلف باختلاف أفكار المتلقي والمحلل وثقافته ولغته.

وتكشفُ لنا دراسة حسين كنوان -الباحث المغربي- الموسومة بـ"تحليل النصوص المفهوم والضوابط"، أهمية تفعيل منهج الإعراب في تحليل النصوص، وضوابط هذا التحليل وأطره؛ محاولةً إقناع القارئ بأنَّ "الإعراب" هو المنهج الذي يجب "الاقتصار" عليه في التحليل؛ لكونه مرتبطا بجميع مكونات القراءة التحليلية من جهة، ولاعتبارات رمزية ومعجمية أخرى، والذي يستدعي معه أن يتغير مفهومه ليشمل كل الأدوات التي تسهم في تحليل النص.

ولقد اعتمدَ الباحثُ في إثبات ما اقترحته الدراسة على توجيه فكر القارئ بطريقة (البناء الهرميّ للفكرة)؛ فهو يمهد لبناء فكرته وفق تسلسل يراه منطقيًا، بدأ أولا بتعريف الإعراب في معاجم اللغة، فقد أورد ابن منظور في لسان العرب: "وقال الأزهري: الإعراب والتعريب معناهما واحد، وهو الإبانة؛ يقال: أعرب عنه لسانه وعرب، أي: أبان وأفصح". ثم انتقل إلى ما قاله تمام حسّان عن الإعراب، والذي أشار فيه إلى كون الإعراب عنوان الدرس العربي، وكونه مرتبطا بالأمة العربية، وبأنه يحمل معنى البيان، وهو دلالة القصد من التكلم، ثم بأن الوسيلة التي يراد منها الفهم والإفهام تسمى إعرابا.

وبعد أن رسَّخ حسين كنوان في فكر القارئ (المعنى والمكانة) انتقل إلى إثبات مقترحه وهو الاقتصار على الإعراب في تحليل النص، بَيْد أنه كان يعلم أن هذا قد يوقعه في أسئلة القارئ المتعلقة بضيق مكونات هذا المفهوم ومحدودية عمله؛ لذلك نراه يشير إلى ضرورة إعادة بناء هذا المفهوم: "وهذا يستوجب إعادة النظر في مفهوم الإعراب، ليشمل كل الأدوات التي تساعد على الإعراب بمعنى البناء"، وإلى ضرورة أن تكون "مستويات الدرس اللغوي كالصرف والصوت والنحو" مرتبطة غير منفصلة أثناء التحليل. ثم كي لا يقع الباحث في إشكالية سؤال القارئ التالي حول اختلاف مجالات النصوص وخلفياتها التي قد لا يلمسها الإعراب، أكد أن يكون هذا التحليل متزامنًا مع "المقتضيات الخاصة بكل نص".. مشيرًا إلى أنَّ هذا الأخير جزء داخل أيضًا في مفهوم الإعراب.

هل يُمكن إذن أن يُمثل الإعراب -بمفهومه الموسع الذي تحدث عنه الكاتب- المنهجَ التحليليَّ المتكامل الذي يجب الاقتصار عليه؟ وللإجابة عن هذا السؤال، وجب الوقوف على النقاط التالية:

أولا: المعنى المعجمي لكلمة "إعراب" هو البيان والإفصاح، وهو معنى مرتبط بمعنى اجتماع الحروف (إ-ع-ر-ا-ب) وليس بمعناه المفاهيمي؛ لذلك فربط الكاتب بينه وبين غاية التحليل ربطٌ غير دقيق تمامًا، وهذا ما جعله يسعى إلى توسعة المعنى وضم ما ليس فيه كي يجعله منهجًا متكاملا.

ثانيًا: التحليل المعتمد على الإعراب فقط -بمفهومه الذي أشار إليه الباحث- قد يسقط منه اعتبارات أخرى مرتبطة بالنص؛ فالخلفيات الأيديولوجية للكاتب، والمواقف الفكرية لذلك العصر، والخصوصية الجغرافية والاجتماعية للمكان، تفرض معانيَ جديدة على اللفظ والسياق، وقد تكون معانيَ ضمنية لا يعكسها ظاهر الخطاب، وهو ما يجعل التحليل الصرفي-الصوتي-النحوي لا يقرؤها بصورة تقود إلى مفهومها المراد.

ثالثًا: النصوص الأدبية الجديدة لا تخضع كلها لقواعد اللغة -بالطريقة التي نعرفها- وهذا يتطلب مناهج تحليلية جديدة ومرنة ومتحركة وفق حركة النص، وهو ليس ما يحققه الاقتصار على الإعراب في التحليل.

رابعًا: جاء في هذه الدراسة بيان المعنى المعجمي لكلمة "تحليل" في سياق التفريق بينه وبين التفسير، يقول الباحث: "هو توظيف كل ما يمكن من الأدوات والقرائن لرفع موانع الإدراك والفهم عن مضامين النص ومعانيه، وفق ما يقتضيه نوعه ومجاله". وهو بهذا التعريف يوسع ما جاءت الدراسة مضيقةً له؛ فالتحليل يطلب لغاية، وغايته رفع الغشاء عن فهم وإدراك رسالة النص، دون تحديدٍ للوسيلة، فإذا ما تحقق ذلك فعلا بصورته الكاملة، فإننا نكون قد حققنا غاية البيان والإفهام.

ثم ينقلنا الكاتب إلى الحديث عن مفهومي التحليل والتفسير، والمقاربة بينهما، وأوجه الاتفاق والاختلاف، وليس من الغريب أن يظهر غرض هذا الانتقال في معرض الحديث عن تحليل النصوص ومنهج الإعراب؛ فالتفسير والتحليل يتفقان -كما أشار الكاتب- في الموضوع والهدف والوسيلة؛ فموضوع التحليل هو النص، وهدفه رفع الغموض، ووسيلته اللغة. كما أنَّ هناك مصطلحًا يرتبط بالتحليل من جوانب عدة وهو مفهوم النقد، غيرَ أنَّ الكاتب لم يعرِّج بالحديث عليه ربما لكون هذا الأخير يدرس مناحي الإبداع الفني في النص والمرتبطة بجوانب أخرى وليس فقط اللغة، وهو ما قد لا يتفق مع دعوة الكاتب إلى الاقتصار على اللغة في التحليل.

كما اقترحَ حسين كنوان -في دراسته- مجموعة من الضوابط التي يُمكن أن تُفيد في تحليل النصوص، وقسَّمها إلى جانبين: مفاهيم عامة مُسلَّم بها، وإجراءات تحليلية ومباشرة. ولكون الباحث يؤطِّر في هذه الدراسة لبناء نظرية عربية متكاملة في التحليل، سَعَى إلى تحديد الأطر العامة في المفاهيم والإجراءات؛ الأمر الذي أوقع منهج التحليل هذا في المعيارية، وهو -بنظري- يقيد المحلل والناقد.

واستكمالا للمنهج الذي بدأ به الكاتب، فقد قدمت الدراسة نموذجًا لمنهج التحليل المقترح، وهو تحليل للآية "نزَّل عليك الكتابَ بالحق"، استخدم فيها مستوى "الصرف" فقط، وقد كان تحليلا صرفيا رصينًا، ربط فيه دلالات الوزن بالمعنى، وقارب بين آراء اللغويين، وأشار إلى ما تعلق من فوائد تلك الأوزان، وقد وفق في ذلك، منتهيًا إلى السؤال التالي: "إلى أي مدى يمكن التسليم بأن دلالة "نزل" تدل على أن القرآن الكريم نزل دفعة واحدة بدليل "أنزل" اعتمادًا على الدلالة اللغوية، دون تأويل؟" إنَّ السؤال يثبت أمرًا لا شك فيه؛ وهو أنَّ التحليل مجال واسع، يبحث ويفسر ويكشف ليظهر معانيَ ودلالاتٍ مختلفة قد لا تتفق وبعضها البعض، وما هو إلا دليل على أن اللغة إبداع يتسع لاحتمالات البشر؛ فلماذا يجب أن نحدها بمنهج تحليلي واحد!

لقد حاول حسين كنوان -من خلال طرحه لمنهج الإعراب في التحليل- الجمع بين أمرين رئيسين؛ استخدام منهج عربي أصيل في التحليل، ومحاولة توسعة هذا المنهج ليكون متناسبًا ومتطلبات القراءة التحليلية العصرية المتكاملة. وبغضِّ النظر عن كون هذا المنهج قد حقق النتيجة السابقة أم لا؛ تظل القراءة التحليلية الواعية والمستفيدة من مناهج التحليل المختلفة، هي المفتاح لسبر أغوار النص، والبحث في مضامينه؛ بحيث يُصبح الناقد والمحلل العربي غير معزول عن اتجاهات التحليل العالمية، بل يبني منها متكاملة منهجًا مرنًا، غايته الرئيسة الوصول إلى أعماق الخطاب، يقول إحسان عباس في النقد: "النقد لا يقاس دائماً بمقياس الصحة أو الملاءمة للتطبيق، وإنما يقاس بمدى التكامل في منهج صاحبه".

تعليق عبر الفيس بوك