دماءٌ تُنزف .. ورسائلٌ تُزف!

هلال بن سالم الزيدي *

تتوقُ النفوس لرائحةِ الكُتب فتستنشق الأحبار المُلَطِخة لبياض الورق فيطغي سواد الكلمات "اللكمات" على صفاء الورقة، فيتناولها القارئ النهم وجبة لفكره الذي يحتاجها ليعيش عليها، فهي أشبهُ بحاجة الجسم للدم ليعيش عليه.. إلا أنّ تلك الرائحة بدأت تتلاشى مع انغماس التقنية في أجسادنا بدلاً من دماء تتحس حاجاتنا .. فكم من مرة عبّر الكثيرون بأن "فلان" : "ما فيه دم ..؟" كنايةً عن قلة الإحساس وانعدام الذوق، لذلك ومع تناقص الدم في الجسم فإنّ الجسد سيصيبه الضعف والهوان ويكون مرتعاً لكثير من الأمراض عافانا الله وإياكم.. ورائحة الدم ذاتها غير مستساغة إذا خرجت عن الأوردة التي تجري فيها، ومخيفة أيضاً إذا ظهرت على الجسد.. فالرائحتان هنا بددتهم مصداقية التقنية الحديثة.. ليصبح الكتاب إلكترونياً بلا طعم ولا هوية ولا مصداقية.. ويُصبح الطلب على الدم في خانة الإشاعة عبر تطبيقات الدردشة الفاقدة كذلك إلى المصداقية.

هناك بين أحضان الشبكات وأسلاك التكنولوجيا تُتبادل أحاديث كثيرة وقصص عديدة، فبرامج المحادثات ضجّت من هول القصص المنسوجة والمنسوبة، فأصبحنا لا نستطيع التفريق بين الواقع والإشاعة، لذا تعاملنا مع سيل الرسائل التي تصلنا ونقلبها في كثير من تلك البرامج بأن جميعها إشاعات، ما لم تكن من جهة رسمية كوسيلة إعلامية أو حساب رسمي لمؤسسة ما، حتى حسابات الأفراد الشخصية في بعض المؤسسات عندما يغردون لمؤسساتهم لم نعد نأخذ بتغريداتهم حتى وإن كان الموضوع يتطلب تعاوناً ما في مسألة تهم المجتمع.

مع اتحاد خلايا الدم الحمراء والبيضاء والبلازما والصفائح الدموية ثمة حياة تستحق الاهتمام بهذا الاتحاد.. ومع اختلال التوازن بين هذه المكونات فثمة أمر ما يدعو إلى استنفار أمني وتقصي للوصول إلى ما يُعكر صفو هذا السائل الناقل للغذاء والأكسجين والفيتامينات وغيرها من الوظائف.. ومع تناقص هذا المكون في جسم الإنسان فثمة حاجة إلى متبرعين يتشابهون في فئة دمهم أو يمتلكون لفئة دم تُعطي جميع الفئات، وثمّة فزعة إنسانية صريحة لا تقبل بأن تكون إشاعة نحتاجها من مختلف فئات المجتمع.. لذا فهناك رغبة دائمة في تجديد الفكر والمحيط الإنساني.. ومن الأفضل أن يكون هناك تجديد في خلايا الدم عبر التبرع بالدم لمن هو بحاجة إليه.

في الفترة الأخيرة تزايد انهمار رسائل تُطالبنا بالتوجه إلى المستشفى "الفلاني"، لأن "س" من الناس صاحب الملف رقم ".." يحتاج إلى دم لإنقاذ حياته من فئة " ...." ومع أن الموضوع إنساني اجتماعي بحت فإنني لم استطع تصديق تلك الرسائل، لأنّ ادعاء الأفراد بأنّ المستشفى "الفلاني"لا يوجد به دم لإنقاذ البشر يعتبر إشاعة كون أن المستشفى المعني هنا لم يُعلن عن حالة النقص لديه، أو أنّ بنك الدم الذي يمول المستشفيات بقطرات الدم لم يُعلن عن نقص لديه أو أنّه يحتاج إلى تبرع عبر وسائل الإعلام، ولكن مع هذا علينا ألا ننتظر دعوة بنك الدم، لكننا في ذات الوقت نحتاج إلى تنظيم العملية حتى لا تصبح الحاجة إشاعة عبر الاستخدام السيئ لوسائل التواصل الحديثة، ونتمنى من القائمين على إدارة الحسابات الرسمية للمستشفيات أن يتفاعلوا مع هذا الأمر ويكونوا مصدر المعلومة، حتى لا تختلط لدينا الأولويات.

تنتشر القصص كانتشار النّار في الهشيم، فكثيرًا سمعنا عن وفاة شخص "ما" بسبب عدم وجود دم من فئته في المستشفى وتعذر الحصول على متبرع له، لكننا كذلك لا نجد المصدر الذي يؤكد أو ينفي هذا الموضوع، لذلك وجب على وزارة الصحة أن تتعامل مع هذه القصص بآلية واضحة وتقوم بدورها في توضيح مثل هذه المعلومات حتى لا يُساء الفهم حول تلك الحوادث، وحتى لا نلوم أنفسنا بالتقصير تجاه دورنا الإنساني في المجتمع.

ما نلاحظه كذلك في الفترة الأخيرة قلة الحملات التثقيفية التي تقوم بها الجهات المعنية في هذا الشأن، لذلك اعتقدنا أنّ هناك اكتفاء من عملية التبرع بالدم، في مقابل رسائل وتغريدات تطالب بالتبرع لوجود نقص حاد، لذا فمن الواجب على تلك الجهات أن تقوم بحملات التبرع عبر وضع نقاط خارج حدود المستشفيات، أي: في الأماكن العامة من أجل دفع الناس وتذكيرهم للقيام بهذا الواجب الإنساني والصحي في ذات الوقت، وحتى تكون هناك مصداقية حقيقية لتغطية حاجة المستشفيات من هذه المادة الهامة التي تقوم عليها حياة الإنسان.

هنا في هذا النطاق قضيتان مترابطتان في الوسيلة وهما: قضية المعلومة الصحيحة عندما تكون إشاعة بسبب كثرة التداول والتعاطي وعدم وجود مصدر موثوق للمعلومة، وقضية إنسانية مُتعلقة بضرورة التبرع بالدم لإنقاض حياة تنحدر إلى الهلاك، لذا ومع وقوع الأفراد تحت طائلة "النسخ واللصق" بسرعة البرق، علينا أن نؤكد على توضيح كيف يمكننا أن نستغل ونستخدم وسائل التواصل الاجتماعية لمصلحة عامة وليست لمصلحة شخصية تفتقد خلالها إلى مصداقية القضية، لنفرق بين الرسالة القادمة إلينا بأنها حقيقية وتدعونا إلى المبادرة أو أنها إشاعة لنلقيها في المزبلة.

على أرصفة الشوارع تُنزف الدماء .. وبين أسلاك التقنية تُزف الرسائل ولا نستطيع التكهن بوعودها وواقعيتها.. فيتمدد الأمل بين الناس لاستجابة مترددة.. وتكبر في نفوس أخرى الأنفة وعدم الانسياق خلف ما تدعو إليه تلك الرسائل، فإما تُنقل إلى مستقبل آخر بداعي "الدال إلى الخير كفاعله" أو تتعرض إلى مسح من ذاكرة مهددة بالانقراض مع اختلاط الصالح بالطالح، ويبقى من يُريد المساعدة على أمل في مُستقبِلٍ مطيع أو ربما ساذج في تصديق لما تنقله تلك البرامج.. فتكون النتيجة إما جفاف نبع الدم المتبقي والحكم على المجتمع بعدم تكافله مع بعضه، أو ربما استجابة خجولة لا تسمن ولا تغني من جوع.

همسة:

كيف لي أن أذهب عميقاً في دمك؟ وكيف لي أن أعرف فئة الدم التي توافق سريان الحياة في جسدك الممرد؟ فربما ما يأتيني عبر الشبكة يفتقد لمصداقية أو أنّه يعبر عن حالة شعورية لم أفهمها حتى اللحظة، فاختلطت الأولويات حابلها بنابلها.. مهلاً مهلاً .. وهل فئة دمي توافق فئة دمك لأغذي شبق الحاجة الدموية لك؟ إنني أخشى أن أوصف بأنني من مصاصي الدماء أعاذنا الله.. لذا علينا أن نُحدد المعادلة التي نستطيع حلها بسهولة بعيداً عن التعقيد الحسابي بجذوره التربيعية والتكعيبية.. فقط دعيني أحاول في حل القسمة المطولة التي طالت الحسبة فيها.. فربما أستطيع حلها.

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

 

تعليق عبر الفيس بوك