وفقدنا الشعور بالدهشة

د. سيف بن ناصر المعمري

 

لو سألني أحد ما الحل للتغلب على التحديات التي تواجهها التنمية في كل القطاعات في وطننا العزيز، لأجبت إجابة ربما يستغرب منها كثيرون، ولكني أجدها من خلال قراءاتي التاريخية والتنموية هي المفتاح الذي لابد أن نمسك به بسرعة قبل أن تتعمق تحدياتنا، هذا المفتاح أمسكت به كثير من الأمم والشعوب ونجحت في تسلق درجات السلم بسرعة لم يكن أحد يتوقعها، والإجابة هي باختصار نحتاج لاستعادة الشعور"بالدهشة"، فهي القوة الخارقة التي تستطيع أن تزرع بداخلنا الرغبة في أن نكون الأفضل إن لم يكن في العالم ففي المنطقة العربية التي لا نزال نحسب من ضمنها ولا نستطيع أن ندعي غير ذلك إلا بالإتيان بعمل عظيم، وقد قال أرسطو "إنّ الدهشة بداية المعرفة"، وقد كان محقاً لأنّالشعور بالدهشة من أي شيء سواء كان إيجابيا أو سلبياً يقود إلى التساؤل عن كل شيء يتعلق به، كيف حدث، ومتى حدث؟ ولماذا حدث؟ وهل يُمكن أن نجعله يحدث بشكل أفضل طالما هو عند الآخرين يحدث بشكل أفضل؟

إن أيّ حركة تقدم إنسانية ارتبطت بالدهشة، والشعوب التي تفتقد الشعور بالدهشة تفتقد للمعرفة التي تساعد على تحقيق التقدم، وبالتالي تفتقد لآليات التقدم، نحن في مرحلة حرجة جدًا من تاريخنا المعاصر في ظل التقهقر الذي تُعاني منه كثير من المؤسسات الحكومية في أدائها وفاعليتها وقدرتها على تحقيق الأهداف التنموية المختلفة وصولاً إلى بناء مؤسسات ثابتة وراسخة تعي أن دورها ليس أداء الحد الأدنى من عملها ومحاصرة المشكلات القائمة من التفاقم إنما هو للعمل على جعل عمان دولة متميزة في المحيط، لا نريد إلا أن نكون في المقدمة دائماً، وعلى أولئك الذين يروجون لغير هذا الهدف أن يعلموا أن هذه أرض لم يعرف شعبها يومًا الانكفاء على الذات أو الدوران حولها.

علينا أن نكون أكثر صراحة في هذه اللحظات، لأن المسألة التي نتحدث عنها هي مسألة تتعلق بوطن بأكمله، أحلامنا له كبيرة جدًا، وأي تراجع في أداء قطاعاته المختلفة سوف يقود إلى مزيد من التعقيد في المشكلات الوطنية، فالتنمية في عمان لا يجب أن تكون مجرد لحظة، هي مشروع ولابد أن يمضي في إطار تصاعدي، ولكن حتى نحقق ذلك لابد لنا أن نستعيد الشعور بالدهشة، وأن نستعيد الشعور بالأحلام الكبيرة التي عبّر عنها صاحب الجلالة السلطان المُعظم في اللحظات الأولى من النهضة حين قال على سبيل المثال في شأن النهوض بالتعليم "سنعلم أولادنا حتى ولو تحت ظل الشجر"، وحين قال في شأن النهوض الحضاري إننا نعمل من أجل أن تستعيد عمان أمجادها التاريخية.

لقد سقطت التفاحة على نيوتن، وسببت له دهشة كبيرة جدًا دفعته إلى اكتشاف قانون الجاذبية، ولو لم يندهش نيوتن لم تمضي حركة العلم لتقود إلى مزيد من الاختراعات، أما نحن فتساقطت أشجار الليمون في ساحل الباطنة منذ ما يزيد على عشرين عاماً ولم نشعر بأي دهشة حتى الآن، وتملح السهل وتراجعت خصوبة التربة فيه ولم نشعر بأيّ دهشة، وزحفت عليه العمالة الوافدة وأهدرت مياهه ولم يحرك فينا ذلك أي شعور بالدهشة، وألغيت كليات التربية الست في عام 2006م، وأدت بعد مرور تسع سنوات إلى عجز كبير في أعداد المعلمين، لدرجة أن طلبة في عدد من المدارس حتى اليوم بدون مدرسين، ولكن لم يحرك ذلك لدينا -حتى الآن- أي شعور بالدهشة، وكنّا نعرف أن عدد السكان يومًا ما سيزداد ولكننا لم نعد لهم عدد الأطباء الذي يحتاجون، وشعرت بالدهشة عندما تعرضت مع عائلتي لحادث واضطررت للذهاب إلى مستشفى الرستاق ووجدت العدد الكبير من الناس من مرضى القلب وغيرهم ينتظرون من الساعة السابعة ولم يصل دورهم حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، وخرجت مندهشاً على الوضع الصحي في بلد صغير وأقول لنفسي متى سيشعر المسؤول بالدهشة مما يجري هنا وما يجري من تطورات في الرعاية الصحية في البلاد الأخرى.

ورأيت مشروع شارع الباطنة الساحلي الذي فتت الحياة الاجتماعية التاريخية في الساحل ولا يزال الجميع يُعاني في كل شيء، ولكن لم يقدنا ذلك إلى الدهشة حتى الآن، حيث يتكرر الأمر في مشاريع أخرى، وأتابع ما يجري من تزييف وتغيير في صلاحية المواد الغذائية حتى في المحلات التي نعتقد أن لها سمعة كبيرة حتى وصل الأمر إلى تسميم طلبة المدارس بتهريب التبغ في الوجبات السريعة اليومية التي تعاقدت المدارس مع هذه المحلات للقيام بها، وأقول متى سنشعر بالدهشة مما يجري من تسميم جماعي لهذا الشعب الهادئ الذي أصبح يخشى كل شيء، آمن من الحروب لكنه غير آمن مما يُحاك له في الداخل من هذه المجاميع البشرية التي انتشرت واستولت على البر والبحر، وسيطرت على الزراعة والتجارة والصناعة، وعلى العقارات، وعلى الوظائف العليا التي منها يتخذ القرار، وأقول متى سنشعر بالدهشة مما يجري؟.

وأسمع أن المدعي الفرنسي قد رفع قضية عمومية ضد شركة سيارات قامت بالغش، ونحن معنا الغش بالجملة وليس بالتجزئة ولكننا حتى الآن لم نشعر بالدهشة مما يجري، بل إن الذين يقومون بمثل هذه الأعمال "الوقحة" هم المندهشون من السكوت عليهم في بلد تنتشر فيه الرقابة على كل شيء حتى أنها تستطيع أن تحدد مكان إبرة الخياطة إذا وقعت في كومة "القش"، وتزاد دهشتي كلما أرى هذا القلق الكبير من تداعي أسعار النفط، لكن إجراءات الترشيد تبدأ من قلم السبورة وورقة الكتابة التي يستخدمها المعلم في المدرسة، لكنها لا تبدأ بجوانب الهدر الكبيرة التي تمارسها بشكل لا يخفى على الجميع، ولا تبدأ من آلاف الوظائف العليا التي تستنزف من أموال الموازنة الكثير دون أي إنتاج من شاغليها، والأمثلة كثيرة لكنها لا تحرك حتى الآن شعورا بالدهشة عند الجميع من مسؤولين ومخططين ونخب اقتصادية واجتماعية وثقافية، حتى المواطن العاديما عاد يدهشه شيء أكثر من واقعه ونفسه، فمتى سنشعر بالدهشة التي تجعلنا نأخذ قرارات جريئة تنمويًا؟ متى سنكون صريحين من أجل هذا الوطن؟

إننا حين ندعو إلى إعادة الشعور بالدهشة البناءة، ندرك أن التنمية والتقدم هما نتاج هذه الدهشة، الذين لا يندهشون من أي شيء لا يحدثون تغييرًا بل إنهم قد يكونون عقبة في وجه الذين يسعون للتغيير، لقد مر بها اليابانيون أكثر من مرة في تاريخهم، وقادتهم دهشتهم إلى تحقيق التقدم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها أنه عندما ظهرت في ميناء طوكيو بارجتان أمريكيتان تريدان تزويد الأسطول بالماء العذب ومعالجة من يصاب من الجنود، اندهش اليابانيون من وجود مدافع على السفن، ومن ارتداء البحارة زياً موحدًا، وبعد أن غادر الأسطول، قاد هذا الحدث اليابانيين إلى التفكير في وضعهم وواقعهم، وأدركوا أنهم متخلفون عن ما يجري في الأمم الأخرى، فأرسلوا أحد عشر رجلا إلى مجموعة من بلاد العالم يبحثون عن سبب تخلفهم، وسبب تقدم غيرهم، ووجدوا أنفسهم بعد ما عاد هؤلاء أمام سؤال صعب جدًا، وأمام طريقين: إما إيفاد طلبة إلى البلاد المتقدمة أو استيراد علماء وخبراء من الغرب لتعليم المئات والألوف، واختاروا الطريق الثاني، فجاء مبعوثون من إنجلترا يعلمونهم بناء السكك الحديدية، ومن ألمانيا يعلمونهم بناء المستشفيات، ومن إيطاليا يعلمونهم الرسم والموسيقى، ومن فرنسا يعلمونهم كيفية وضع دستور للبلاد، ومن أمريكا يعلمونهم بناء التعليم والمدارس، وتحولت اليابان بفضل الدهشة إلى ورشة عمل كبرى، وتغير واقعها وتفوقت، هل يمكن أن نشعر بالدهشة؟ وإذا شعرنا بها هل يمكن لنا أن نديرها كما أدراها اليابانيون؟ أسئلة كثيرة تطرح هنا وهناك ..ولا إجابات تقدم، ولكن طرح السؤال قد يحرك الدهشة يوماً.

 

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك