أوبرا "توراندوت" لبوتشيني: عندما يُذيب لهيب الحب جليد القلب


إنتاج باهر وخاص لدار الأوبرا السلطانية مسقط يُجسِّد مشاعر الشجاعة والحب

تحطيم أسوار الخوف والشك والرغبة في الانتقام

أكثر من 60 عمانيا ومقيما يشاركون في الحدث كمتطوعين في بادرة غير مسبوقة للتواصل المجتمعي والمسرحي احتفاءً بالمواهب المحلية



د. ناصر الطائي *

يُختتم، مساء اليوم، بدار الأوبرا السلطانية مسقط، العمل الأوبرالي الكبير "توراندوت" للموسيقار الإيطالي الشهير جياكومو بوتشيني، والذي وقع عليه الاختيار لتدشين دار الأوبرا السلطانية مسقط في أكتوبر 2011. وتكمُن أهمية "توراندوت" في كونها من إنتاج المخرج السينمائي والمسرحي الشهير فرانكو زيفريللي، وهو إنتاج خاص لدار الأوبرا السلطانية مسقط. وتعدُّ الأوبرا قمة الإنتاج الأوبرالي الإيطالي التي تركها الموسيقار الكبير غير مُكتملة؛ حيث وافته المنية قبل انتهائه من كتابة المشهد الأخير في 1924. ويُشارك في الحدث الكبير أكثر من 60 عمانيا ومقيما كمتطوعين؛ في بادرة غير مسبوقة للتواصل المجتمعي والمسرحي احتفاءً بالمواهب المحلية. وتجسِّد الأوبرا مبادئ الشجاعة والتسامح، وتنتهي بانتصار الحب على مشاعر الكراهية والانتقام. إنه إنتاجٌ دراميٌّ باهر جدير ببداية الموسم الخامس لواحدة من أعظم الأعمال الاوبرالية تقدم على خشبة واحدة من أجمل قاعات العرض المسرحي والفني على وجه الأرض.

وفي أكثر اللحظات حدةً وتأثيرًا، وفي ذروة الحبكة الدرامية لعمله الأوبرالي الأخير "توراندوت"، جفَّ الحبرُ في قلم بوتشيني ونضب معه نبع إبداعاته المتدفق. توفي بوتشيني قبل أن تحبك أنامله خيوطَ المشهد الأخير من الأوبرا الذي كان ليجمع بين الأمير "خلف" والأميرة "توراندوت"، مليكته القاسية، في لحن ثنائي حميم. لقد كانت وفاة واحد من أهم ملحني الأوبرا الإيطاليين في عصره قبل كتابة النهاية بمثابة إشارة من القدر إلى استحالة المضي قدمًا وإكمال العمل.

كان بوتشيني يكافح لإيجاد نهاية منطقية لعمله الأوبرالي تبرِّر كيف يمكن لاثنين من الغرباء أن يجتمعا في أغنية حب ثنائية، ويشدوا بصوتيهما معًا مُعلنين الخاتمة المنطقية للمشهد الاحتفالي والعرض ككل. وعلى عكس عمله الأوبرالي "البوهيمية" مثلًا، لم يكن الحب الحقيقي ما جمع بين "توراندوت" والأمير المقدام، بل على الأحرى عواطفهما الجياشة وإيمانهما بحتمية القدر. وعلى مدار الأحداث الدرامية، وبالرغم من أنَّ اللحظات التي جمعت بينهما محدودة، إلا أنها مؤثرة؛ ففي نهاية الفصل الأول لم يسترق الأمير "خلف" سوى نظرة سريعة إلى ملكة الثلج التي لم تنطق بكلمة واحدة. وبرغم أمرها الوحشي بقطع رأس "أمير بلاد فارس" الذي عجز عن حلِّ ألغازها الثلاثة، يقع "خلف" أسير جمالها وسحرها وغموضها. وبرغم محاولات ردعه وتحذيره من العواقب الوخيمة التي قد تطاله في حال لم يتمكن من حل الألغاز، يقرع بكل حماسة الصنج الصيني ثلاث مرات معلنًا تقدّمه للامتحان ومجازفته بحياته للفوز بقلبها!


أساطير عربية وصينية بحلة جديدة

استمدَّ بوتشيني عمله الأوبرالي من قصة أساطير شهيرة للكاتب الإيطالي المسرحي كارلو جوتسي، تدور أحداثها في بكين في القرون الوسطى، ومقتبسة بدورها من النسخة الفرنسية لمجموعة من القصص العربية ترجمها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان في 12 مجلدًا بين عامي 1704 و1717 وعُرفت باسم "ألف ليلة وليلة..حكايات عربية مترجمة إلى الفرنسية". ولقد صمّم بوتشيني على إضفاء صبغة عصرية عليها وإكسابها نفحة مستنبطة من صدق التجربة الإنسانية، وعليه طلب من مؤلف نص الأوبرا جيوزيبي أدامي، إضافة شخصية "ليو" إلى العمل وهي أمة شابة تلعب دورًا محوريًا في مثلث الحب بين "خلف" و"توراندوت". في بادئ الأمر، تألفت الأوبرا من ثلاثة فصول وهي البنية المسرحية المتعارف عليها: الفصل الأول ينتهي على الرغم من إجابة "خلف" على الألغاز بحلِّ "توراندوت" من وعدها بالزواج منه إن تمكنت من معرفة اسمه الحقيقي، والفصل الثاني يركِّز على استجواب "ليو" المنتهي بأغنية حب ثنائية بين "خلف" و"توراندوت"، فيما يدور الفصل الثالث حول إعدام "خلف" الذي تعود "توراندوت" عن قرار تنفيذه، منكرة هويته ومعلنة عن حبها له.

ورغم اعتراض مؤلفي النص، اقترح بوتشيني دمج الفصلين الثاني والثالث معًا ولكن كلما كان يتقدَّم خطوة إلى الأمام في سرد الأحداث، تنشأ تحديات جديدة، ولأكثر من عامين، ما بين 1921 و1924، ظلت الأغنية الثنائية التي تجمع بين "خلف" و"توراندوت" عائقًا أمام إنجاز بوتشيني العمل، إذ لم يكن راضيًا عن أي نسخة زوده بها مؤلفو النص، وعندما لفظ أنفاسه الأخيرة في 29 نوفمبر 1924، لم تكن الأغنية الثنائية متوفرة إلا في صورة مسودات. وباقتراح من قائد الأوركسترا العظيم أرتورو توسكانيني، سلِّمت تلك المسودات إلى فرانكو ألفانو، أحد تلاميذ بوتشيني، لإكمالها، وبالفعل تمكّن ألفانو من تأليف أغنية الحب الثنائية وإكمال المشهد الأخير للأوبرا بالشكل الذي نعرفه به اليوم، غير أن توسكانيني قرر عدم استخدام نهاية ألفانو في أول مرة عُرض فيها العمل على خشبة المسرح، وتوقف عند موت "ليو"، أي مع آخر مشهد كتبه بوتشيني قبل وفاته. وفيما بعد، تم نشر موسيقى الأوبرا متضمنة نهاية ألفانو التي أصبحت النهاية المعتمدة في جميع عروض هذا العمل الأوبرالي الأعظم في تاريخ بوتشيني.


الاستشراق والافتتان الثقافي بالآخر

تصوِّر أوبرا "توراندوت" الحضارة الصينية بعدسة الفنانين الأوروبيين الذين كانوا في ذلك الوقت يظهرون الصينيون على أنهم شهوانيون وغامضون وهمجيون وغير عقلانيين في طقوسهم وعاداتهم. ولقد كان بوتشيني يعي تمامًا ما يتمتع به الصينيون من أسلوب مميز واستطاع أن يعكسه في الحبكة الدرامية، وكما تضمن عمله "مدام بترفلاي" (1904) إيحاءات تبرهن على بحثه المتعمق في الحضارة اليابانية، أضفى بوتشيني نفحة صينية مصطنعة على النسيج السيمفوني لأوركستراه. وبسبب الطبيعة الوحشية للصينيين التي أظهرها في العمل، مُنعت أوبرا "توراندوت"من العرض في الصين حتى عام 1996.

لطالما لجأ بوتشيني إلى سرد أحداث أعماله الأوبرالية في أماكن واقعة في بلدان أجنبية؛ مثل: الحي اللاتيني في باريس، ومناجم الذهب في كاليفورنيا، وميناء نجازاكي، والمدينة المحرمة في بكين، غير أنه لم يكن في حالة "توراندوت" مُلمًّا بالثقافة الصينية؛ مما يُفسِّر إحباطه ومعاناته في إكمال العمل. حتى إنه كتب يومًا قائلًا: "لقد حاولت مرارًا وتكرارًا تأليف موسيقى المشهد الافتتاحي للفصل الثاني، دون جدوى، فإني لا أشعر بالراحة عندما يتعلق الأمر بالصين".

في "توراندوت" يصوِّر بوتشيني الصين على أنها مكان ناءٍ وغريب ويصوِّر الصينيين على أنهم أناس وحشيون وهمجيون وغامضون. وبالتأكيد لم يكن بوتشيني وحده من سلك هذا المسلك؛ إذ تعتبر أعمالًا فرنسية على غرار "جميلة" (1872)، و"كارمن" (1875) لبيزيه، و"شمشون ودليلة" (1877) لكاميل سان سونس، و"لاكمي" (1883) لديليب، والقصيد السيمفوني "الصحراء" لفيليسيان دافيد، أمثلة قوية على الأعمال الاستشراقية في الموسيقى؛ ففي تلك الأعمال تظهر الشخصيات الغربية متحضرة ومتمدنة وعقلانية على النقيض من الشخصيات الشرقية الوحشية والعاطفية.


شخصيات أوبرا "توراندوت" وموسيقاها

منذ اللحظات الأولى لرفع الستار عن المشهد الافتتاحي يرتعب الجمهور من مدى عنف الصينيين ووحشيتهم؛ إذ يستخدم بوتشيني أنغامًا صاخبة، تعززها الصنوج الصينية وآلات الزيلوفون، وأنغامًا ثنائية متضاربة تخلق نوعًا من التنافر الموسيقي الحاد الذي يعبِّر عن مدينة محاصرة بشتى أنواع العنف والعذاب؛ حيث تتقدَّم الحشود المتعطشة للدماء لمشاهدة إعدام "أمير بلاد فارس" الذي عجز عن حل ألغاز "توراندوت". كما يتعالى في بداية الأوبرا صوت المنادي بالتداخل مع قرع الصنج ونغمات الزيلوفون مدليًا ببيان مفاده: "إن "توراندوت" البكر المصون مستعدة للزواج من أي رجل ينحدر من سلالة ملكية يتمكن من حل ألغازها الثلاثة، وإلا فسيكون مصيره الهلاك".

تقبع الحشود بلهفة وحشية في الظلام مترقبة بزوغ القمر إيذانًا بساعة إعدام "أمير بلاد فارس"، وبداخلهم صراع بين طبيعتهم المحبة لسفك الدماء وشعورهم بالشفقة تجاه الأمير الشاب. وأمام رهبة ذلك المشهد، يسخط "خلف" على "توراندوت" بسبب قسوتها، لكن ما إن تقع عيناه عليها إلا ويسحره جمالها الغامض ("يا للجمال الإلهي الخارق!") وسرعان ما يملأ عبق عطرها العربي الأخاذ الهواء ويتغلغل إلى تجاويف روحه ليسكن حواسه ويشعل دواخله بلهيب الرغبة.

"بينج" و"بانج" و"بونج" ثلاث شخصيات هزلية صينية مقنّعة، استوحاهم بوتشيني من شخصيات "الكوميديا الهزلية" وهو أحد أشكال الفنون المسرحية الإيطالية، واستعان بهم ليسخر من الصينيين من خلال أسمائهم المضحكة النمطية وإيماءاتهم المبالغ فيها. وفي المشهد الأول من الفصل الثاني، نستمع إليهم وهم يسردون تاريخ الصين وحالة البؤس والشقاء التي آلت إليها البلاد منذ تولي "توراندوت" مقاليد الحكم، كما يسترسلون بحديثهم متذكرين بقلوب ملؤها الشوق حياة الريف الهادئة ويبعثون روح المرح في العرض مخففين من حدة الأجواء التراجيدية السائدة عليه.

أما "ليو" فهي شخصية آسرة اختلقها بوتشيني وهي أمة صينية تتفانى في خدمة "تيمور"، والد "خلف"؛ لأنها مغرمة سرًّا بـ"خلف" الذي ابتسم لها ذات مرة في فناء قصرهم! إنها أكثر شخصيات بوتشيني رومانسية على الإطلاق وعلى الرغم من حساسيتها وفقرها ومرضها إلا أنها مفعمة بالعواطف الفياضة ونموذجًا للتفاني والإخلاص والرومانسية فهي تضحي بحياتها فداء لـ"خلف" وترفض الإفصاح عن اسمه بالرغم من تعرضها للتعذيب.

وفي أغنيتها "اصغِ إليَّ سيدي!" تتوسل "ليو" بكل جوارحها إلى "خلف" ليبقى معها ومع والده ويتخلى عن سعيه للفوز بقلب "توراندوت"، وهي أغنية بسيطة يُستخدم فيها السلم الخماسي الشرقي إيحاءً بهوية "ليو" الآسيوية، كما أن البنية التآلفية للأغنية بسيطة وواضحة هي الأخرى بما يرمز لبساطة شخصية "ليو" ونقائها. تبقى "ليو" متمسكة بحبها وترفض إعطاء اسم "خلف" للملكة؛ الأمر الذي يُودي بحياتها في النهاية بفعل التعذيب، وبهذا تستعيد الأمة الرقيقة الطيبة روحها من خلال الموت. تموت "ليو" الرومانسية الوفية الحساسة، لكنَّ رباطة جأشها وشجاعتها يظلان ذكرى خالدة مدى الدهر، وهكذا تكون بتضحيتها البجعة البيضاء التي غرّدت بموتها أنشودة خلاصها الأبدي.

وعلى النقيض من شخصية "ليو"، تجسِّد "توراندوت" شخصية ملكة الثلج الجبّارة، فأغنيتها الطويلة "في هذا القصر" التي تنشدها في الفصل الثاني أغنية سوداوية ومعقدة ذات أبعاد ملحمية تروي من خلالها قصة جدتها "لو-يو-لينج"، التي اعتدى عليها أعداؤها وقتلوها. وبسببها أقسمت "توراندوت" على الانتقام من جميع الرجال الذي يحاولون إغاوءها؛ بحيث لا يستطيع أي رجل أن يتملكها يومًا. تخبر "خلف" بأن الألغاز ثلاثة والموت واحد، لكن "خلف" يجيبها: "لا، الألغاز ثلاثة والحياة واحدة!" باعثا بذلك رياح الأمل والتفاؤل التي ستعصف بقلب الملكة.

"خلف" هو بطل رومانسي من الطراز الأول، يعميه عنف "توراندوت" وجبروتها، فيثنيه "بينج" و"بانج" و"بونج" بكل الطرق عن قراره المتهور، إلا أن شيئًا لن يردعه عما هو مقدم عليه، لا أشباح الملوك والامراء التي قتلتهم من قبله ولا حتى صورة السيَّاف وهو يحمل رأس "أمير بلاد فارس" بين يديه؛ فقلبه الذي تقوِّيه نشوة الحب وعروقه المشتعلة بنيران الرغبة لا مكان فيهما للخوف.

وفي لحظة تفكير وتأمُّل بعد حله الألغاز الثلاثة، يقف "خلف" مستدفئًا بوهج الانتصار مغرِّداً أغنيته الشهيرة "لا أحد ينام" التي تنضح في بساطتها وتوزيعها الأوركسترالي بالعواطف والشاعرية والرومانسية. وفي حديقة القصر المضاءة بنور القمر، يسمع "خلف" صوت المنادي وهي يدلي بمرسوم الأميرة "توراندوت"، فيفتتح أغنيته بأول جملة ينطقها المنادي قبل أن يحوّلها إلى نشيد انتصاره، ويخاطب ملكة الثلج في غرفتها الباردة قائلًا:

لا أحد ينام الليلة! لا أحد ينام الليلة!

حتى أنتِ أيتها الأميرة

لن تعرف عيناك النوم...

في غرفتك الباردة

تنظرين إلى النجوم، وترتعشين

بالحب والأمل..!

يشتدُّ وقع الأغنية تدريجيًّا عندما يبدي "خلف" ثقته في الحب، غير آبه لعنف "توراندوت" وواثق من انتصاره في النهاية. ينتشي "خلف" بعواطفه المتقدة التي تذيب قلب محبوبته مدركًا سلفًا بأنه سيفوز به قبل انبلاج الفجر. "توارى أيها الليل وانطفئي يا نجوم فعند الفجر سأنتصر!".


****

تتربَّع أوبرا "توراندوت"على قمة مشوار بوتشيني الفني، كما أنها تمثل نهاية عصر فن الأوبرا الإيطالي العظيم الذي بدأه مونتفردي بعمله "أورفيوس" في العام 1607. موسيقاها تعكس الأسلوب الذي اعتمده بوتشيني في أواخر القرن التاسع عشر في كتابة الموسيقى، مستعينًا بفرق أوركسترا وكورال ضخمة وعدد أكبر من الآلات الإيقاعية وتآلفات ثنائية النغمات، ومغامرًا بألوان موسيقية عصرية مثل نغمات السلم الخماسي والآلات الموسيقية الأجنبية غير المألوفة. لقد أوجدت تلك الابتكارات

تعليق عبر الفيس بوك