توجيه الوعي

أسماء القطيبي

".. لذا؛ فإنَّ من واجبنا الديني أنْ نُعادي هؤلاء، ونُعادي مَنْ والاهم، والله معنا، وما النصر إلا من عند الله"، بهذه الكلمات وما يؤدي لمعناها خطب شيخ الدين أمام عشرات الرجال في صلاة الجمعة، ثم أمَّن المصلون على دعائه على الأعداء الجدد وانصرفوا.

هذا المشهد ببساطة يختصر كيف يتم التحكم بالرأي العام من قبل الساسة وأصحاب القرار. فليس أضمن وأسهل من الدين طريقة لتمرير أي فكرة مهما بَدَت غير مستساغة منطقيا وعاطفيا وإنسانيا. إنَّه الغطاء الذي يُواري عن الظلم والعدوان سَوْأته، ويُلبسه الشرعية والمصداقية. وهذا الأسلوب ليس بجديد مُطلقا؛ فمثلا في أوروبا حكمتْ الكنيسة لعصور مُظلمة طويلة على الناس دون أن يحركوا ساكنا، وفي العصر الإسلامي وصل الفاطميون والزيديون والعلويون وغيرهم إلى سُدَّة الحكم، وتولوا مناصب الإمارة عن طريق إثارة مسائل دينية تتعلق بالقرآن والسنة غالبا؛ كونهما مصادر التشريع، وأدَّى هذا إلى تأليب الناس على الحكام لتؤول السلطة إليهم، وهذا السبب وحده ما يفسر التحريف والتزييف الذي تعرَّض له تاريخ المسلمين، والسُّنة، وسير الصحابة والخلفاء.

... إنَّ الرأي الجماهيري لا يستند إلى معايير محددة أو منطقية معينة؛ فالناس تميل عادة إلى الالتفاف حول أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية مهما كان توجُّههم، ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنَّ الالتفاف حول أصحاب القوة يمنحهم نوعًا من الأمان، ومشاركة وهمية في الأحداث، كما يُجنِّبهم ذلك بطش الطغاة المستبدين إن هم خرجوا على الرأي السائد لينتصروا لآرائهم الشخصية. فليس من السهل أن يشذ شخص ما عن رأي جماعته ويتعرض للنبذ دون أن يغير ذلك من حقيقة الواقع شيئًا. وعلاوة على ذلك، فإنَّ البسطاء من الناس لا يميلون إلى تكوين آراء شخصية حول الأحداث التي تجري من حولهم أصلا؛ لإنشغالهم بتأمين أرزاق عائلاتهم؛ لذا فإن رأي رجل الدين بالنسبة لهم هو الرأي السديد الذي لا غُبار عليه، وهم مُستعدون للدفاع عنه بأرواحهم لو أجبروا على ذلك.

ولأنَّ منابر الجُمع وحدها لم تعد كافية وبذات التأثير السابق، فقد قام الساسة بتسخير الإعلام عن طريق بث الرسائل المصمَّمة للشباب المسلم لتوجيه رأيه وتخدير وعيه، ولا استغراب من مُلاك هذه القنوات كونهم تجارا لهم مصالحهم فيما يقومون به، ولكن اندهاشي من هذا الكم الذي لا يستهان به من المتحدثين باسم الدين الذين لا يجدون ضيرا في ركوب أي موجة كانوا قد ركبوا عكسها دون أن يشعروا بأي حرج. فحين أشاهد أحدهم يتحدَّث عبر قنوات التليفزيون بكلام يبدو مقنعا ومؤثرا ومُمتلئا بالشواهد والأدلة التي يكيفونها مع موجتهم الحالية يتبادر إلى ذهني قول الله تعالى: "وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم".

... إنَّ السياسة لا يُمكنها أن تُقنع الناس بالمنطق والحجة، لأن الرأي الجماهيري بطبيعته رأي عاطفي يتأثر بالشعارات والمناشيهات، ويتكون بتأكيد ذات الرسالة مرارا وتكرارا وبأساليب مختلفه تمت دراستها وتعديلها بما يتناسب مع خصوصية المجتمع ليتبناها الناس ببطئ ودون وعي. وقلما ينجو أحد من هذا التأثير بشكل كلي، ولأن الفضاء أصبح مفتوحا ليتعرض الناس لرسائل مختلفة ومتضادة حول ذات الموضوع فقد توجهت القوى السياسية إلى الرقابة تارة، وإلى التشديدات والاعتقالات للمعترضين تارة أخرى، ليكون التخويف ثاني الطرق في ضمان جماهير الناس، بل وضمان مدافعتهم عن فكر قادتهم مرددين قول مشايخ الدين، ومؤامنين على لعناتهم على العدو ولو كان مسلما موحدا.

إنَّ الدين بروحانيته ومقاصده لا يتناسب مع لعبة السياسة ودوران المصالح في العالم. فالسياسة لعبة قذره يقضي فيها القوي على الضعيف، ويتسيد فيها صاحب القوة الأعلى على من هم أدنى منه؛ في حلقة لا تنتهي من الصراعات والحروب، ومن المخزي أن يتم ذلك عن طريق حشر الدين وتخدير وعي الناس به في طريق مختصر للتربع على العرش وتحقيق المصالح. وفي الكتاب المقدس وردت عبارة بليغة تقول: "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فما لله له وللناس ولحياة كريمة، وما لقيصر له ولمثله من الملوك والحكام دون أن يتعدوا الحدود في تشويه قدسية الدين في قلوب معتنقيه. ويا ليت قومي -من المسلمين- يعلمون!

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك