وكأنَّ جون فيلبي حيٌّ يُرزق

زاهر المحروقي

في العام العاشر للهجرة النبوية الشريفة -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- خطب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبة في جموع الحُجَّاج عُرفت باسم "خطبة الوداع"، حذَّر فيها من التعرض لدماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، في أسلوب موجز بليغ؛ إذ كانت تلك الخطبة هي وصية الرسول لأمته إلى يوم القيامة، عندما قال: "أيها الناسُ، إنّ دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم إلى أن تَلقوْا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدِكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد"؛ ومن ضمن ما قاله عليه الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"؛ نعم لقد بلَّغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولكنّ الأمة لم تنتفع بما بلّغ، فدارت الحياة دورتها، ليعتلي منبر الرسول الكريم في الموقف نفسه عام 1436 للهجرة، شخصٌ خطب بما يخالف ما جاء في "خطبة الوداع"، عندما لم يَدْعُ إلى حقن دماء المسلمين الأبرياء الذين يُقتلون ليل نهار في اليمن بالأسلحة المحرمة؛ بل تحدث وكأنه الناطق الرسمي لبلاده، وهو ما يخالف فكرة الخطبة نفسها؛ إذ المفترض أنْ لا تعكس وجهة النظر الرسمية؛ فهي موجهة للمسلمين كافة، سواء من حضر الحج أو تابع النقل المباشر، ويجب أن تتناول الخطبة كل ما يؤدي إلى الوحدة والاتفاق لا إلى التنافر والاقتتال، ولا يصح أن تكون خطبة عرفة منبراً للطائفية أو الشحن المذهبي وتحريض المسلمين ضد بعضهم البعض؛ فالمسلمون في ظروفهم الحالية أحوج ما يكونون إلى قيم المودة والمحبة والوحدة والإخاء، لا إلى من يعمِّق لهم العداوات والجراحات، والبيتُ الحرام هو ملك لكل مسلمي الأرض ولا يختص بأناس معينين.

لقد قال خطيب عرفة من بين ما قال :"إنّ الجماعة الحوثية جماعةٌ مجرمةٌ آثمةٌ ظالمةٌ تحمل فكراً خبيثاً، سبوا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منابرهم وفي مجتمعاتهم وإعلامهم، وإنّها منحرفة في عقيدتها، ومناوئة لأخلاق المسلمين، وهم يسعون لنشر الفوضى في بلاد الإسلام، لتمكين أعداء الأمة الإسلامية من تنفيذ مخططاتهم التي تستهدف وحدة المسلمين"؛ وحقيقة فإنّ كلاماً كهذا هو دعوة لسفك دماء الشعب اليمني؛ فالحوثيون -الذين هم يمنيون- لم يعتدوا على دول الجوار بإطلاق رصاصة واحدة؛ وإنما هم في حالة الدفاع عن أنفسهم، وفي النهاية فإنّ موضوع الحرب على اليمن موضوع سياسي ليس له علاقة بالدين؛ ولقد كانت الاستجابة لكلام الخطيب سريعة جداً؛ عندما تم تفجير مسجد البليلي في صنعاء على رؤوس المصلين وهم يكبِّرون الله تكبيرات العيد، ممَّا أدى إلى قتل 25 شخصاً وإصابة العشرات.

لقد تلى الخطيب قول الله سبحانه وتعالى "وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التّي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقّ"، واستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهِداً لم يرح رائحة الجنة"، وهذا يطرح تساؤلات: هل أبرياء اليمن لا يدخلون ضمن النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق؟، إنّ المتلاعبين بالدين وعلماء السلطة والمصابين بالأمراض المذهبية، سيُخرجون الآية من سياقها، وسيقدمون الآلاف من التبريرات التي تجيز قتل الأبرياء في اليمن وفي غيرها، وأنّ قتلهم إنما هو قَتْلٌ بالحق، ثم إنّ مَن قتل معاهداً لن يشم رائحة الجنة، فماذا عن قتل المسلمين الموحدين الأبرياء؟!

لقد أعادتني خطبة عرفة إلى مقال لمحمد حسنين هيكل قرأته في مجلة "الكتب.. وجهات نظر" ونشره فيما بعد في كتابه "نهاية الطرق؛ العربي التائه 2001"، قال فيه إنه زار صالة "سوذبي" في لندن، فلمح مجموعات أوراق من الشرق الأدنى، كان من ضمنها مجموعة من الأوراق تحت رقم 206 -تحتوي على 18 خطاباً بخط يد "جون فيلبي" المستشار الشهير للملك عبد العزيز آل سعود، وكان في الأصل ضابطاً سياسياً تابعاً لحكومة الهند كُلّف بأن يكوِّن "مركز اتصال" مع عبدالعزيز آل سعود حاكم الرياض والحسا، قبل أن يصبح هذا الأخير أميراً ثم سلطاناً ثم ملكاً؛ والخطاباتُ لم تنشر من قبل، وكلها مكتوبة بخط اليد وموجهة إلى السير "بيرسي كوكس" وهو المقيم البريطاني العام في منطقة الخليج، مكلّفاً بهذه المسؤولية من حكومة الهند، وحين أصبح عبد العزيز سلطاناً على نجد ثم الحجاز، ثم ملكاً بتوحيد القطرين؛ ظهر "فيلبي" مستشاراً مقرباً من الملك "عبدالعزيز" ونجماً ظاهراً في بلاطه؛ وقد عرف "جون فيلبي" باسم الشيخ عبد الله، هو مستعرب ومستكشف وكاتب وعميل مخابرات بمكتب المستعمرات البريطاني، لعب دوراً محورياً في إزاحة العثمانيين عن المشرق العربي، خاصة عن السعودية والعراق والأردن وفلسطين؛ ادَّعى الإسلام وخطب الجمعة في الحرم المكي عن فضائل آل سعود على الهاشميين حكام الحجاز سابقاً.

يقول هيكل إنَّ خطابات فيلبي إلى رئيسه السير "كوكس"، هي لمحات سياسية وإنسانية كاشفة لجوانب من التاريخ العربي لها دلالاتها؛ لأنّ مهمة فيلبي الأساسية كانت العمل على تصفية وجود الخلافة العثمانية في شبه الجزيرة العربية بما يمهد للعمل ضدها (ضد الخلافة) وهزيمتها في منطقة الشام، باعتقاد أنّ ذلك مؤدٍ إلى سقوطها في عقر دارها -وهو ما حدث فعلاً- وكان تكليف فيلبي الأول هو توجيه عبد العزبز آل سعود لمهاجمة أمير حايل الموالي للأتراك حتى تنكشف القوة العثمانية في نجد؛ ثم العمل على منع عبدالعزيز آل سعود من مهاجمة الهاشميين، الشريف حسين وأبنائه في مكة، لأنّ هؤلاء الهاشميين الحلفاء لبريطانيا سوف يقودون ثورة العرب ضد الأتراك، معتمدين على ولاءات وتحالفات وصداقات لهم في الشام تحمل الثورة ضد الخلافة إلى قرب معقلها الداخلي في تركيا.

ويُضيف هيكل إنّ جون فيلبي قال بالنص: "طبقاً للقرآن، فلا ينبغي أن يكون هناك قتال بين أخيار المسلمين -أي الوهابيين (هكذا يقول فيلبي)- وبين المسيحيين لأنهم من أهل الكتاب، والتسامحُ معهم توجيه من الله؛ أما قتال المسلمين الأخيار وجهادهم فلا يكون إلا مع المشركين والكفار، وأولُ الكفار والمشركين هم الأتراك العثمانيون وأيضاً الأشراف الهاشميون، وباختصار كلّ "المحمديين فيما عدا الوهابيين"!؛ ويضيف فيلبي عبارة قال عنها هيكل إنَّ لها رنيناً لا تزال أصداؤه سارية حتى الآن، وهي: "ليس من شأننا تصحيح الخطأ في هذا الموضوع، بل على العكس علينا تعميق كراهية ابن سعود لكلِّ المسلمين من غير الوهابيين؛ فكلما زادت هذه الكراهية للجميع كان ذلك متوافقاً أكثر مع مصالحنا".

لقد توقف هيكل قرابة نصف ساعة يقرأ الخطاب الأول، لأنه تقرير وافٍ كتبه فيلبي بعد إقامة دامت ثلاثة أشهر في معسكر حاكم الرياض والحسا؛ والخطابُ في 32 صفحة بتاريخ 2 يونيو 1918 من وادي الدواسر.

... إنَّ من يُتابع واقع المسلمين الآن يكاد يحس بأنَّ جون فيلبي حيٌّ يرزق، وكأن تعليماته هي التي تنفذ وهي التي تحدد من هم المسلمون الحقيقيون ومن هم أصحاب البدعة والضلالة؛ وإذا كانت الخلافة العثمانية قد ذهبت فإن أعداء آخرين جدداً -حسب تحديدهم- قد ظهروا في الساحة، وبالتأكيد فإن من حرض بالأمس على قتال العثمانيين هو الذي يحرض اليوم على قتال الحوثيين وغيرهم.

عندما يتدخَّل الدين في السياسة فإنه يفسدها، وكذلك عندما تتدخل السياسة في الدين فإنها تفسده؛ وهذا هو الحاصل الآن في الوطن العربي، حيث أصبح المفتون سياسيين وأصبح السياسيون مفتين، وفي النهاية انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وأكاد أجزم بأن خطبة عرفة لم تغير رأي أو فكر شخص واحد على الإطلاق، سواء من الحضور أو المتابعين عبر الشاشات أو من قرأوا النص؛ وإنما زادت الخطبة من انقسام الناس، إذ كان المقياس المذهبي هو معيار الحكم على موقف الشخص من الحرب على اليمن؛ واستخدامُ كلمة "الحرب على اليمن" هي الأدق من كلمة "الحرب على الحوثيين"؛ فالشعبُ اليمني هو الذي يدفع ثمن حرب ليس لها ما يبررها إطلاقاً، فإذا كانت إيران هي المقصودة بهذه الحرب، فإيران هذه أمامهم.

لقد ارتفعت الأصوات من جديد في أكثر من منبر ديني وسياسي وإعلامي، تنادي كلها بأن تكون الأماكن المقدسة تحت إشراف إسلامي، وقد جاءت حوادث حج هذا العام، واستغلالُ خطبة عرفة للحديث عن المواقف السعودية الرسمية تأكيداً على صحة هذه الأصوات؛ وإذا كانت الآن أصواتاً خافتة فإن ضجيجها مرشح لأن يعلو في قادم الأيام؛ وبالتأكيد فإن هذه الأصوات تحرج السعودية.

على الشيوخ أن يتركوا السياسة، وأقصاهم أن يهتموا بقضايا الحيض والنفاس التي برعوا فيها على مدى 1436 سنة؛ لأنهم إن تكلموا في أمور أخرى فإنهم لا يملكون إلا ما يفرق بين أبناء الأمة، وقد قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إن كلام بعض المتحدثين بالدين عورة"؛ كل هذا والمسجد الأقصى يعاني ويصرخ ويستنجد ولكن لا مجيب.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك