في ما يُشبه الغيبوبة

فؤاد أبو حجلة

في ما يشبه الغيبوبة، كُنت عاجزا عن تمييز الوجوه أو تذكر أسماء الواقفين حول سريري في الغرفة 134 في المستشفى.

لم تكن غيبوبة بالمعنى الطبي، ولم تكن نوما.. كنت أرى ولا أرى. ربما لم أرد أن أرى الواقفين حول السرير، لكنني رأيت أصحابي الذين مروا من أمام الجدار الأبيض في الغرفة أنيقة الإنارة. كانت ملامحهم واضحة تحت الضوء مثل صور الأشعة.

كان سميح الزير أول الزائرين. دخل عبر الباب الخشبي المغلق وفي يده نسخة من جريدة "الثورة". جاء إلى سريري، عانقني وأعطاني الجريدة، ثم جلس على المقعد الجلدي العريض أمام السرير.

لحقه هاني العزة وكان الباب الخشبي لا يزال مغلقا. كان هاني يرتدي سترة الطبيب، ويتدلى من جيبه طرف السماعة، وعلى كتفه كان الكلاشنكوف معلقا بحزام جيشي قرأت عليه نقشا باسم "الكتيبة الطلابية".

سلم هاني بهدوء. أعطاني ظرفا فارغا لرصاصة من معركة قلعة الشقيف، ثم جلس إلى جانب سميح على المقعد الجلدي الفاخر أمام السرير.

آخر الزائرين كان حمزة إبراهيم. فتح الباب الخشبي بخفة، ومر كنسمة بين الواقفين حول السرير. سلم علي وأعطاني نصا نثريا مكتوبا على ورقة كان يخبئها في جيب قميصه، كأنه يدفئ بها قلبه.. ومضى ليجلس مع سميح وهاني على المقعد الجلدي.

فجأة لمع في الغرفة برق صامت. دخلت لبنى، وكان خطوها سريعا. عانقتني وهمست في أذني بأنها تحبني. وضعت وردة على المخدة، وتفاحة على السرير.. واختفت.

غابت وجوه أصحابي.. وغابوا. وصرت أميز وجوه الواقفين حول السرير. طبيبان أحدهما في منتصف العمر والثاني قي ريعان الشباب، وممرضة مصابة بالسمنة المبكرة، واثنان من زملائي في العمل يتصنعان القلق، وصديقة مخدوعة بجدوى الكتابة ومعجبة بلغتي، لكنها مقتنعة تماما بضرورة المكياج الذي تتلفه الدموع.

كان الطبيب الذي في منتصف العمر منهمكا في شرح حالتي المرضية للطبيب الشاب الذي كان يستمع باهتمام واضح لما يقوله أستاذه، ويسأله عمَّا يمكن أن تفعله بي الجلطة القادمة، هل تميتني أم تشلني؟

لم يرد الطبيب الذي في منتصف العمر على سؤال الطبيب الشاب، لكنني سمعته يقول "كله بأمر الله".

الممرضة المصابة بالسمنة المبكرة كانت تحاول شد أزرار سترتها الطبية لتغطي كتل الدهون التي يضيق عليها القماش. وكانت تتأفف من طول ساعات العمل وقلة الراتب.

زميلاي في العمل كانا يتجادلان حول فروق الأسعار بين المستشفيات، وسمعت أحدهما يجزم بأن "الفاتورة هنا ستكون كبيرة، لكنه كان يمكن أن يموت لو نقلناه إلى مستشفى حكومي".

الصديقة المخدوعة بضرورة الكتابة كانت تحاول ترميم مكياجها، وتذكر مفردات حفظتها من نصوص قرأتها لتسأل الطبيب الذي منتصف العمر عن توقعاته بموعد صحوي من الغيبوبة. لم تتذكر الغيبوبة واكتفت باعتباري "في حالة إغماء".

بدأت أستعيد قدرتي على التنفس بانتظام، وانتظم نبضي، فبادر الطبيب الذي في منتصف العمر إلى إصدار أوامره للممرضة السمينة بنزع قناع الأكسجين عن أنفي وفمي. ثم بدأ يسألني عما أحس، وهل أشعر بألم في الصدر أو في الأطراف؟!

عندما اطمأن الواقفون حول سريري إلى أنني لست مرشحا للموت، غادروا الغرفة 134.. وبقيت وحدي. كانت في يدي نسخة من جريدة بلا عنوان تحمل صفحتها الأولى صورة لزعيم بلا وجه، وفي يدي الأخرى كنت أمسك بولاعة رخيصة للسجائر، وكانت على طرف السرير ورقة كتب عليها مقال رديء في مديح حكومة.. وعلى مخدتي وجدت وردة مهداة إلى شخص لا يحمل اسمي.. وتفاحة لم تخرجني من جنة الغيبوبة.

تعليق عبر الفيس بوك