علعال أبو قمبرة

عائشة البلوشيَّة

كم كُنا نحب أن نترنَّم بالأهزوجة الفلكلورية: "علعال أبو قمبرة، حبة ذرة.. لا تنبرة"، وذلك كلما رأينا علعالاً يحط على الأرض في ضواحي النخيل أو السيوح؛ حيث إنَّ الأسطورة العمانية القديمة تقول إنَّ العلعال طائر ذكي جدًا يأتي ببشائر الغيث، والعلعال هو فرخ طائر القبرة، ولكننا نطلق عليه أبو قمبرة لوجود ما يشبه التاج على رأسه، وفي سلطنة عمان "القمبرة" لفظة محلية للشعر الأشعث، وتجمع على "قنابر".

ومن أشهر الأساطير العمانية، يُحكى أنَّ عوسًا (ثعلبًا) اصطاد علعالاً، فمشى مختالا بغنيمته بين فكيه، حاملا إياه إلى وكره ليلتهمه حتى لا يشاركه أحد، والعلعال يزدرد ريقه وعقله يفكر في حيلة يحتالها، وإلا فهو ملاق حتفه بين أنياب هذا العوس المكار؛ فقابلهما الضبع وهما في طريق الموت وسأل: ما هذا يا أبا العيسان؟ وﻷن الثعلب لا يريد أن يفتح فمه، فقد ردَّ على الضبع بفم ممتلئ وبصوت مخنوق: "عليعيل"، ثم تكرر الحال مع الثعبان، وبعد أن تجاوزا الثعبان بخطوات، لمعت فكرة في رأس العلعال، فقال للعوس: "ما هذا يا حصيني؟ لماذا ترد بهذا الرد وتقول عليعيل؟ عليك ألا تظهر الضعف لهذه الحيوانات وإلا افترستك واستخفت بك واستضعفتك، إذا سألك أي حيوان لا تستصغر غنيمتك بقولك عليعيل، بل قل بكل ثقة وبصوت واضح: علعال، وما هي إلا لحظات وظهر الذئب في طريقهما، فسأل العوس قائلاً: يبدو أنك اصطدت شيئاً اليوم، ما هذا؟ فرد العوس بكل ما أوتي من قوة: علعااااال، ففر العلعال في السماء مستعيدًا حريته، وحط على الأرض وظل يقفز أمام العوس، حتى أوصله إلى بئر ووقف على دوارة "دائرة" الزاجرة، التي يوضع عليها الحبل لاستخراج الماء من البئر، فقال للثعلب: إذا أردت أن تأكلني فيجب عليك أن تقفز إلى الدوارة لتحصل علي، فأنا لا أصارع إلا في الدوارة! وما كاد ينهي كلامه إلا والثعلب قد قفز ليمسك به، ففر العلعال بسرعة جعلت الثعلب يفقد توازنه ويسقط في البئر، عندها وقف العلعال بكل ثقة المتحكم في الموقف على فوهة البئر، والثعلب يستنجد ويستغيث، فقال للثعلب: لن يخرجك من هذا البئر إلا من أسقطك، ولكن قبل أن أخرجك من هنا يجب أن تعاهدني ألا تأكل علعالاً على امتداد الزمان، فوافق الثعلب مرغماً، وهكذا أصبحت الثعالب لا تأكل العلاعيل إلى يومنا هذا. العجيب في الأسطورة أن العلعال هو الطائر الوحيد الذي ينام مستلقياً على قفاه! وذلك حتى يظل ممسكاً بالسماء كي لا تقع بحسب ما جاء في الأسطورة، كما أن الثعالب عندما تمر على أي علعال فإنها تدير وجهها إلى الجانب الآخر، حتى وإن كان مستلقيا.

وبالرغم من مكر الثعلب ودهائه، إلا أنَّ العلعال الضئيل استطاع أن يمكر به، ويوقعه في فخ الغرور والكبرياء ليحصل على حريته بسهولة ويسر، ويصبح في الموقف الأقوى ويملي شروطه. وبالعودة إلى الحكمة القديمة "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب"، نجد أننا نحتاجها جدًّا في أيامنا هذه؛ حيث أصبح الكلام من الهواء، أصبح الكل يخوض ويتكلم ويحاسب ويحاكم أي شيء وكل شيء، فاختلط الحابل بالنابل، واشتغل الكل بالكل، وتركوا لب الحكمة من خلقنا، إلى ما لا يفيد، فأصبح الوقت يمر علينا ونحن لم ننجز سوى أبسط ما يمكن أن ننجزه لو استغنينا عن "الوتسبة أو التوترة أو الإنستجرمة" قليلاً، وانشغلنا بحيواتنا وتعميرها بالمفيد، ولو أننا أعطينا الوقت الأكبر للتواصل الحقيقي، والوقت الأقل للتواصل الافتراضي، لوجدنا أننا نستلم الرسالة الحقيقية والصحيحة، ﻷننا استلمناها بانفعالاتها وتعبيراتها الحسية والجسدية واللغوية الطبيعية، ولو عدنا إلى العوس والعلعال سنجد أن العوس لم يكن ليخسر شيئاً لو أبقى فمه مقفلاً ولم يلتفت ﻷسئلة الحيوانات الأخرى، ولكن رغبته القوية في استعراض قدراته، جعلته يلغي عقله تمامًا وينقاد للعلعال الذي اكتشف نقطة ضعفه الواضحة للعيان.

ومن هنا، نصل إلى مربط الحكمة؛ وهي أن العقل هو أغلى وأروع ما حبا الله تعالى به بني آدم، ولكن للأسف هنالك العديد ممن يلغون عقولهم، وينقادون إلى أفكار تكون وبالاً عليهم وعلى أهليهم وعلى أوطانهم، وهذا الخطر الداهم الذي يقض مضاجعنا، مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت صلة الوصل بين الأيدي البريئة والعقول الخبيثة، لتغرس في النشء أفكارًا هدامة متخذة أساليب الالتواء اللين، وحَبْك الحقائق بالأكاذيب الملفقة، وجر الألباب الغضة إلى مهاوي الجهل، بتعظيم الأنا الفارغة فيهم، وشغلهم بأمور لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلا من باب الاستعراض الفارغ.

------------

توقيع: "قال بعض الحكماء: اعلم أن من يقظة الفطنة إظهار الغفلة مع شدة الحذر".

تعليق عبر الفيس بوك