العقل في مواجهة النص

جمال القيسي

منذ فترة وجيزة، نشطت على فيسبوك بصورة لافتة، ومؤثرة، وجادة، وإن بدت ساخرة، حملة إلكترونية ضد "الدواعش" ما ظهر منها وما بطن، وما هي إلا تفكيك خطابي من العلمانيين الليبراليين ضد المتحجرة عقولهم وقلوبهم، وهو قتال ليس كرها لنا. ينوب، اليوم، كثير من المثقفين عن كثير منهم في تجشم عناء المواجهة، وهذه الكلمات، محاولة مني لرص صفي إلى صفوفهم ومحاذاة النكب بالنكب.

يجرح الحملة الجديدة الارتجالية بنصل قلمها الحاد قلوب الذين لا يؤمنون بحق الآخر (نحن)، ولا يعترفون بإمكانية الاختلاف، مجرد الاختلاف، محتكرين الحقيقة، وبلاهة الشعور بتفوقهم على البشر، بحكم الاتكاء على قدسية النص الذي يتزلزل، ويتهافت أمام حيادية العقل الذي يَجْبَه الجمود، ويذروه في مهب ريح المنطق، فيتركه قاعا صفصفا من هلوسات حواشي المتون، وطبقات فحول المحدثين، الذين ولدوا في هناءة وحماقة علم الجرح والتعديل الذي تآزر عليه الفقهاء المنتصرون؛ فكتبوا الحديث الرائق لأذهانهم وفلتات وجدانياتهم، بحكم ظل ظليل في مسجد مزركش بأشعار الفخار بالاحتلال وقد جاء بمسمى فتوحات.

تنبش الآراء المطروحة علاقة المثقف بالسياسي (الحزبي والسلطوي)، رافضة تغول الحزبية والسلطة في المجتمع المدني العلماني الحر وطروحاته، وكينونته المتكاملة الرافضة الانصياع لأشكال التعسف التي أفلح الحزبي والسلطوي في فرضها على دهماء الناس حتى انساقوا وراءها، كأنها خطى كتبت عليهم، بحكم الارتكان كأمة في "عسل الرباب والمحراب" وهم (الدهماء) غير ملومين؛ في ظل، بل حرور، تقاعس المثقف العضوي عن القيام بدوره المنوط والمفترض به، في إدارة أزمات المفروض بحكم سلطة الماورائيات، وسطوة حملة صكوك الغفران.

وما مرد تغول "السلطة الحزبية" وما تفرضه بالنتيجة على مخرجات المجتمع، في النيل من وجود المثقف، إلا تأصل "النظرة العليا" لدى هذه السلطة بأنها إن لم تقمع صوت المثقف فإنها ستكون في مواجهة الدهماء التي ترفض (السلطة الحزبية) إلا أن تكون مسبّحة بآلائها؛ وهو ما صنف المثقف طرفا غير معترف به يقينا، وبصورة لائقة، على مدى العلاقة التاريخية بها ومعها. والأمر سيان في علاقة المثقف مع السياسي بشكله السلطوي .

على الخطاب التنويري عدم الاكتفاء بردة فعل المثقف الدارجة على هذا الإقصاء و"التهميش" وما "يتحصن" به الكثير من المثقفين بإبداعهم، والنأي في جبل يعصمهم من مواجهة التهافت؛ الذي يرون أنْ لا ينبغي لمثقف تجاوزه الى مرحلة المواجهة الفروسية والنبيلة، أو محاكاة الأفكار الكبيرة والقيم العليا -التي أشبعوها تنظيرا- لتستقيم مع واجب السلوك الثقافي الإنساني المفترض.

كما لا يجوز للمثقف إلا الصبر على أذى الكافرين بحقيقة أن ضوء الشمس لا يغطى بغربال المؤسسة الدينية الضاربة في التواطؤ على الحريات بمؤازرة من "السياسي السلطوي"، وفي الوقت نفسه عدم الرضوخ لرماح النيل وتحويل بوصلة الطرح نحو الشخصنة، وهي مسألة موجعة لا يحتملها سوى من يدرك ثمنها مسبقا.

مع الأسف لا تجد الانتفاضة على فيسبوك ضد النص الاحتلالي، أو الاحتلال من خلال النص، أي صدى من "المثقفين الليبراليين"، سوى لايكات لا تفيد عدالة القضية بشيء، ولا يناصرها اليسار الساذج، ولا أحد يفتش في معجمه، بل كانت بعض الرايات/البوستات التي ترفعها ضد الظلاميين، محل ممازحة مراهقة، وكأن الأمر إبداء رأي في فقرة من برنامج مسابقات غنائية.

... إنَّ الالتحام بمعركة حمل مشاعل الثقافة تبدي ظلام الحزبية الضيقة التي لا ترى سوى ذاتها والنص. في حين أن مهمة منظمات المجتمع المدني، بما تضم من نخب مثقفة (هذا المفترض)، ولكنه الأمر الذي تراجعت عنه هذه النخب، واستسلمت إلى القول بأن أربابا وإخوانا تحمي المجتمعات، وتقيها حر الصيف، وقر الشتاء، وكفى الله المثقفين شر المهمات والدور الطليعي! لا بل اختارت هذي النخب، غير مرة، مجاملة الحزبي الظلامي نتيجة اعتقاد أنه في الخندق ذاته في حرب الضد وما يحاك للأمتين العربية والإسلامية.

نُدرك أنَّ الحزبي المبشر بثيوقراطية الدولة مأزوم في ماضيه وواقعه، ولا يحسد على انعدام الرؤية، ولا يخفى على أحد شهقاته المتشبثة بالبقاء. لكن ذلك لن يكون على قيد حياة المدنية والعلمانية والليبرالية .

لربما يكون من المتوقع انسحاب المثقف من المشهد تاركا الحزبي المستبد يحصد ما زرعت يداه بدعم السلطوي، لكن المثقف لن يترك أحدا يخرق السفينة وعلى متنها الجميع، لأن الجميع، ببلاءاتهم وابتلاءاتهم، مكون أساسي لكل المجتمع، ولابد من تقويم الاعوجاج بالكلمة لا بالسيف.

تحية للقابضين على جمر الحقيقة.

تعليق عبر الفيس بوك