فوكوياما وتراجعه عن الرؤية الأحادية للنموذج الليبرالي

عبد الله بن علي العليان

عندما تنبأ البروفيسور فرانسيس فوكوياما في أطروحته:(نهاية التاريخ) في أواخر القرن الماضي، وقال إنّ الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الآيديولوجي للإنسانية وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ، فإنّه لم يكن يدرك أنّ هذا الطرح الآيديولوجي أيضًا لم ينطلق من رؤى واستقراءات عميقة في التاريخ والصيغ والنماذج البشرية، وإنه ربما سيفاجأ بما حدث للنظام المالي الرأسمالي في الولايات المتحدة الذي اعتبره نهاية النهايات لكل الفلسفات والأفكار الإنسانية، وأصبحت الاقتصاديات العالمية تعيش زوابعه السلبية وأثرها على الأمم في عيشها واستقرارها، آخرها الأزمة المالية التي عصفت بالغرب منذ عدة سنوات وتداعياتها المقبلة إلخ: وهذا العام صدر للبروفيسور فوكوياما كتاب بعنوان(الإسلام والحداثة والربيع العربي)، وهو عبارة عن حوارات أجراها الباحث السوري د/ رضوان زيادة، تحدث فيها صاحب أطروحة نهاية التاريخ عن رأيه في القضايا التي استجدت بعد هذه الأطروحة، وأصبح معتدلاً في أفكاره التي قال فيها بنهاية التاريخ عند الليبرالية الرأسمالية، وانتقد بعض السياسات الأمريكية في تعاطيها مع القضايا العربية. ويعترف بأنّ هذه الأطروحة جاءت في سياق انهيار المعسكر الاشتراكي والنظم الشمولية في أوروبا الشرقية، ولم تأتِ نتيجة طرح موضوعي هادئ بعيداً عن الزهو بانهيار الكتلة الشيوعية الذي يقودها الاتحاد السوفيتي آنذاك.

ولاشك أنّ لاندفاع فوكوياما في جعل الرأسمالية الغربية هي أقصى ما تصل إليه البشرية، تخمينات لا ترقى إلى علم المستقبليات التي تتوقع أشياء بناءً على استقراءات واقعية ورؤى لما يأتي في المستقبل. لكن ما قاله فوكوياما هو عبارة زهو بما حصل للفكر الاشتراكي من انهيار من خلال النظم الشمولية في المعسكر الشرقي، وهذا الانهيار لا يُعبر عن انتصار الليبرالية الرأسمالية بقدر ما يكشف عن سوء الإدارة في النظم الاشتراكية والقمع والقهر والاستبداد الذي صاحب هذه النظم مما جعلها تتراجع وتنهار بالصورة التي تمت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي إلى جانب عيوب هذه النظم الأخرى التي لا مجال الحديث عنها الآن لكن الذي نود طرحه أن الليبرالية لها مساويها العديدة وتطبيقاتها السلبية، إنما الجانب الإيجابي الذي أعطى الزخم والتطور للنظام الرأسمالي هو الحرية والديمقراطية والمراجعة الدائمة، وحرية الإعلام، والنقد إلخ.

ومن أبرز الكتاب الذين ناقضوا نظرية (نهاية التاريخ) بانتصار الليبرالية الغربية المؤرخ الأمريكي جاك بارزن الذي نشر مقالاً بعنوان (مقولة الديمقراطية) نفى فيها نفياً قاطعاً وجود نظرية موحدة للديمقراطية وأكد وجود العديد من الأفكار الديمقراطية التي لا يربطها نسق فكري واحد، وذهب إلى أبعد من ذلك حين أكد أن الديمقراطية الأمريكية مثلها في ذلك مثل الديمقراطية الإنجليزية لا يمكن تصديرها للخارج لأنّ فهم ما في الديمقراطية ليس في مقولاتها التي تقوم عليها أياً كانت، ولكن في طريقة تطبيقها وفي المؤسسات التي تقوم على آلية التطبيق، وهذه مسألة لصيقة بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل مجتمع وهي الحاسمة في موضوع الممارسة الديمقراطية، لكن الأصح أنّ انتصار الليبرالية الغربية كما صورها بعض الكتاب بأن الصراع الذي قام بين القطبين العالميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي سابقاً) كان صراعاً على المصالح والغنائم من خلال التسابق على التسلح والحرب الخفية الباردة بأشكالها المختلفة من أجل إضعاف الآخر وهزيمته، وانتهى طبعاً بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار نظامه..هذا السقوط فاجأ الخصم الآخر ـ الولايات المتحدة ـ فسارع إلى استثمار هذا السقوط بالإعلان عن تفرده بقيادة العالم بل و (نهاية التاريخ) في الصراع الفكري والحضاري بهذا الانهيار. هذه التنبؤات والتخمينات موجودة في كل العصور.

فقد انتقت الماركسية بعض مراحل التاريخ وصورته بـ (الحتمية التاريخية) فهم لم يأخذوا التاريخ كله كنموذج ليستنبطوا منه فنون حركته، وإنّما أخذوا بعض مراحل التاريخ وفقرات هي التي وجدوا فيها مصداقية كلامهم وأغفلوا الباقي .. وما كان لأحد أن يُحيط بالتاريخ كله ولو أراد، وما وصلنا من التاريخ ربما بعضه خضع للأهواء والميول، فالمادة التاريخية ـ ما يقول المرحوم د/ مصطفى محمود ـ مادة خادعة وهي بطبيعتها متعددة المصادر ومتناقضة ومتضاربة ولا يمكن استيفاؤها كلها ولا جمعها كلها بيقين كافٍ كي يقول فيلسوف التاريخ إلى القول بنظرياته، أو أنّه استنبط منها قانون مطلقاً وقول هذا الكلام هو السذاجة بعينها.

ولكن الفكرة الموضوعية العلمية الأمينة ـ كما يقول ـ لا تقول بأكثر من الترجيح والاحتمال، فالقوانين الإحصائية كلها قوانين احتمالية وكلها ترجيحات لا ترتفع للمستوى أو على الأصح إلى مرتبة الحتمية أو الإطلاق، ثم إن الإنسانيات لا تجوز فيها الحتمية لأنّ الناس ليسوا كرات (بلياردو) تتحرك بقوانين فيزيائية، لكنهم مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات معقدة يستحيل فيها التنبؤ على قوانين مادية.. وهذا ما وقع فيه فوكوياما.

منذ فترة وبعد الأزمات الأمريكية بعد الحرب على أفغانستان والعراق بدأ فوكوياما يتراجع عن بعض ما قاله في أواخر القرن الماضي عن انتصار الليبرالية الغربية على كل الصيغ والأفكار والأيدلوجيات الإنسانية، والاعتراف على استحياء بوجود تعدد النماذج الخاصة في الديانات والفلسفات والصيغ الحضارية .. لكن فوكوياما لم يعترف تماماً بهزالة أطروحته (نهاية التاريخ) عند الديمقراطية الرأسمالية الغربية في نموذجها الوحيد على كل الصيغ الإنسانية،.. فهل يملك فوكوياما الشجاعة ويعترف بهذا بخطأ أطروحته بعد الأزمة الرأسمالية الأخيرة؟!.

العالم الآن يشعر بالإحباط والقلق عندما لم يحسب الحسابات الواقعية الدقيقة بالاعتقاد أن هذا النظام الرأسمالي يمكن أن يتراجع أو ينهار أو يصاب بالأمراض المزمنة تمهيداً إلى الانزواء والتقهقر . وتلك سنة الحضارات والصيغ والنماذج عبر التاريخ . فالرأسمالية أفادتها وجددتها الحرية والديمقراطية من حيث الانفتاح على كل الآراء والتعديل والتحوير في تطبيقاتها مع كل عاصفة من عواصفها منذ قيامها في القرون الماضية، لكن عندما بدأت التلاعبات والغش والأكاذيب والتلفيق في التطبيق في تعاملاتها، لذلك نعتقد أن تجديد الرأسمالية كما حصل في الكساد الكبير أصبح صعباً وربما مستحيلاً، ولا بد من إيجاد النموذج الأجدى بالبقاء والاستمرار في ظل العدل والصدق والشفافية والكف عن مقولات النهايات لنموذج وحيد أوحد وفلسفة نجاحاته، والتسويغ لتفوقه على كل القيم والنماذج الأخرى .. والعاقبة لله عز وجل.

تعليق عبر الفيس بوك