حكومات الظل ورجالها

(الجنرال توفيق أنموذجًا)

علي بن مسعود المعشني

حكومة ظل أو حكومة الظل وتعرف في بريطانيا بالمعارضة الوفيّة، هي حكومة غير موجودة على الخريطة التنفيذية ومهمتها توجيه النقد للحكومة القائمة على رأس عملها. تشكل من قبل حزب غير مشارك في الحكومة التنفيذية وذلك في حالة سقوط الحكومة تكون هذه الحكومة جاهزة لتكليفها من قبل رئيس الجمهورية أو الملك وعادة ما تكون من الحزب الثاني في البلد، مثل أن يشكل الجمهوريون حكومة ظل في عهد الحزب الديمقراطي الأمريكي، أو حكومة ظل للمحافظين في عهد حزب العمال البريطاني.

وهناك حكومات ظل تفرضها لوبيات ومراكز قوى وتأثير بفعل نفوذها القبلي أو المناطقي أو المالي أو الصناعي، خاصة إذا كانت هذه اللوبيات والقوى مؤطرة بعوامل وأسباب من التنظيم والتراتبية والدقة لإحداث التأثير والفاعلية المطلوبة.

ولكن الجديد والتركيز في هذا المقال سيكون على رجال الظل، وهم في الغالب من العناصر المؤثرة والتي تتمتع بذكاء فطري حاد وقراءة نافذة للأحداث وقوة نفسية هائلة، وهم في الغالب فئة زاهدة في المناصب وتتجنب الأضواء والبريق الاجتماعي، والأهم من كل ذلك عدم انغماسها في اللوبيات أو المحسوبيات التي تحكم رجال الدولة وصناع السياسات في الغالب أي مجردة من أي مصلحة بخلاف الرؤية العلمية والعقلية المُجردة.

وجد رجال الدولة في بعض البلاد ضالتهم في وجود رجل ظل أو رجال ظل يستنير بهم في رسم السياسات ونقدها وتقويمها، وهم في الغالب من رجال الفكر أو الأكاديميين أو هم رجال محترفون في المجال العسكري أو الأمني أو منظرين، والقاسم المشترك بينهم جميعًا هو اندماجهم العضوي في الدولة والمجتمع والقراءة الثاقبة للمزاج العام للدولة والمجتمع، أي أنهم مفكرون اجتماعيون وساسة بالدرجة الأولى وممارسون بالفطرة والتجربة والتراكم المعرفي.

الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران كان من أكثر الرؤساء في الغرب انفتاحًا على المفكرين والمثقفين والأكاديميين في بلاده، وكان يحتفظ بعلاقات صداقة وثيقة مع العديد منهم وصلات لا تنقطع، للاستماع إليهم ومجالستهم واستشارتهم وتكليفهم بدراسات وبحوث للقضايا الهامة الداخلية أو الخارجية، وكان الرئيس ميتيران يتجنب الاعتماد الكلي والتام على التقارير الرسمية التي ترد مكتبه من الجهات والوحدات الحكومية أو الطواقم الرسمية، ويرى ضرورة إضفاء الصبغة العلميّة والأكاديمية والنظرة المحايدة على تلك التقارير قبل إقرارها. لهذا عُرفت السياسات الفرنسية في عهد الرئيس ميتيران بالسلمية التامة في الخارج والتنمية الملموسة في الداخل، حيث كان يولي الداخل الفرنسي جُل اهتمامه.

وهناك أيضًا رجال دولة تنفيذيون في بلدانهم، ولكنهم كانوا في المقابل يقومون بأدوار رجال ظل في أوطانهم نتيجة وطنيتهم وعمق وعيهم ونفاذ بصيرتهم ، فكانوا كالرجل الضرورة في تلك الحكومات رغم أنّهم متناغمون إلى حد بعيد مع منظومة الحكم وتنفيذ السياسات إلا أنّ رؤاهم وأطروحاتهم تبقى محل تقدير واحترام وإن لم تُنفذ أو يُعمل بها. ومن هذه النماذج في وطننا العربي، طارق عزيز في العراق ومحمد حسنين هيكل بمصر عبدالناصر والدكتور إدريس البصري في المغرب والدكتور غازي صلاح الدين العتباني بالسودان واللواء عمر سليمان بمصر مبارك واللواء محمد مدين (الجنرال توفيق) في الجزائر.

وحديثنا اليوم عن اللواء محمد مدين رئيس جهاز الاستخبارات العامة والاستعلام في الجزائر منذ عام 1990م ، والذي أحيل للتقاعد مؤخرًا، وتسبب هذا القرار في لغط كبير وتكهنات كبيرة في الجزائر وخارجها، نظرًا لمكانة الجنرال توفيق ودوره في الجزائر طيلة ربع قرن من الزمان، حيث عُرف بصانع الرؤساء والساسة في بلاده.

أغلب الكلام والتوصيف الذي وصف به اللواء محمد مدين لم يكن كلامًا علميًا صادرًا عن معرفة وعلم بهذا الرجل، بل كانت مسميات وأوصاف أطلقها الشارع السياسي وأفرزها التنابز الحزبي، وممن لهم ثأرات أزلية مع المؤسسة العسكرية الجزائرية وعلى رأسهم ما يُعرف بتيارات الإسلام السياسي والتيار الليبرالي المنبهر بالغرب.

اليوم فقط، يمكنني الاعتراف شخصيًا كأحد المهتمين بالشأن الجزائري بفضل الجيش الجزائري والمؤسسات الأمنية وتضحياتها الجسيمة للحفاظ على لحمة البلاد ووحدة ترابها - دون التوقف عند التفاصيل - فيما عُرفت بالعُشرية الدموية السوداء (1992 - 2002م). بعد أن جرفتنا العاطفة وتيارات التغريب والتقليد، إلى اللهاث خلف كل زاعق وناعق للنيل من هذه المؤسسات الوطنية العميقة، بزعم الخلاص من الديكتاتوريات وحكم العسكر، ولهذا الموضوع حديث يطول ويعمق في دهاليز الفكر السياسي والتاريخ وأطوار الدولة ومفهومها.

الجنرال "سي توفيق" هو رجل التسعينيات بدون منازع. اسمه الحقيقي محمد مدين، يعتبر اللاعب الأول في الأزمة الجزائرية. هو خريج دفعة "السجاد الأحمر" التي أرسلتها الثورة سنة 1958 إلى موسكو ليتدرب على أيد ضباط الـ"كي جي بي". هو إذن يعمل وفق العقيدة السوفيتية في المخابرات حيث درس علوم حبك المؤامرات الوقائية وترويج الشائعات لتفكيك قوة الخصم. مر على يديه 5 رؤساء دول وكثير من رؤساء الحكومات ومئات من الوزراء.. وبقي هو في مكانه، لا يزحزحه أحد.. اخترق الجميع، أحزابا وصحافة ورجال أعمال. وهندس تاريخ الجزائر المعاصر على طريقته. يتهمه خصومه بكونه المسؤول عن اغتيال محمد بوضياف، وكذلك اغتيال رئيسه السابق قاصدي مرباح (المؤسس الفعلي للاستخبارات الجزائرية) وارتكاب مجازر بن طلحة وغيرها.. والأكثر من ذلك هو الذي أجبر الرئيس اليمين زروال على الاستقالة، وهو الذي فرض الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة على قيادة الجيش ومن ثمة، أوصله إلى قصر "المرادية" ليحكم الجزائر. ويروّج خصومه أيضًا أنه ينسق كثيرا مع رجال الخفاء الذين يديرون الصراع في الجزائر في الظل. ويشيرون بأصبع الاتهام إلى الجنرال المتقاعد ووزير الدفاع السابق خالد نزار وكذلك الراحل الجنرال العربي بلخير وزير الداخلية السابق ومدير مكتب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

وفي المقابل، يرسم المقربون من الجنرال توفيق، أو الذين عملوا معه، صورة "إنسانية" لهذا المسؤول الغامض الذي نسجت من حوله "الأساطير"، سواء بمعناها الإيجابي عند أنصاره أو بمضمونها السلبي عند مناوئيه. ورغم أنّ المنصب الذي تولاه "توفيق" طيلة 25 سنة، كفيل بأن يجلب له الأعداء كما المحبين، إلا أنّ معظم الشهادات التي يقبل أصحابها التصريح بها علانية ترفض أن تنتقده أو تذكره بسوء، وكأنّ الذي كان يسميه كبار مسؤولي الدولة "الماجور" (الرأس الكبيرة) قد رحل لكن ظله لا يزال يسكنهم.

"توفيق رجل بلا وجه، لا يرغب في أن تؤخذ له صورة أو يظهر على الملأ"، يقول أبو جرة سلطاني، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم : "اسمه أصغر بكثير من الأسطورة التي نسجت حوله، ربما لأنه اشتغل في مرحلة تقتضي أن يكون الأمني مهيمنا على السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، فصارت صلاحياته بلا حدود".

سلطاني: "كانت له حياتان"، يُعرف سلطاني توفيق على أنّ له حياتين. الأولى متعلقة بالمهنة وهي "غارقة في السرية والكتمان". والثانية حياة شخصية عادية هو فيها "حريص على أن يأخذ حقه من الصلاة والعبادة". وفي هذه يضيف أبو جرة: "رافقت الجنرال توفيق لأداء مناسك الحج ذات سنة ورأيت حرصه على العبادة".

أمّا الصفات الإنسانية في شخص توفيق، فيلخصها أبو جرة سلطاني في أنه "هادئ جدا لا يُستثار ولا يُستفز ولا ينفعل، كما أنه مستمع لبق قليل الكلام، ومتواضع في لباسه وأكله وجلوسه". وينتهي أبو جُرة إلى أن توفيق "كان ذكيا يتغابى"، أي أنه "لم يكن يشعر محدثه بأنه يملك المعلومة وينتظر سماعها منه". ويروي سلطاني أنّه التقى توفيق أول مرة عندما كان في مستشفى عين النعجة بعد محاولة اغتياله سنة1994، وآخر مرة كانت سنة 2011م. "زارني هو والوزير قيدوم سنة 94 واطمأن على صحتي، معتذرا لي أنه تأخر لليوم الثالث من استشفائي، وعلل ذلك بأنه لم يسمع الخبر، فمازحته قائلا: كيف ذلك وأنت إذا انكسر عود في الجزائر تسمع به؟ فرد علي بابتسامة".

بلعياط: لم يكن يشعر بالتفوق

أمّا الوجه المعروف في (حزب جبهة التحرير)عبد الرحمن بلعياط، الذي تقلد مناصب وزارية سمحت له بالاحتكاك بالجنرال توفيق، يقول عنه: "كان يجعل مصلحة البلاد فوق كل الاعتبارات، سواء تعامل مع الأحزاب الوطنية أو الديمقراطية أو الإسلاميين، ليس له تحيز لأي كان ولا يشعر بالتفوق عندما يتحدث". يضيف بلعياط : "أحفظ له أنه كان يقول إنّ البلاد لابد أن تتقوى بكل قواها السياسية، شرط أن نحافظ على مكاسبنا الثورية". وحول ما إذا لمس عنده توجهات معينة في الأفكار والأيديولوجيات، يقول بلعياط: "لديه اعتزاز بكل مكونات الشخصية الوطنية، فهو يعتز بالعروبة والأصالة الأمازيغية وبجزائريته عموما".

مدني مزراق: راسلته في 1994 والتقيته في 2006م

ولمدني مزراق، أمير ما يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ، الذي فاوضه جهاز المخابرات في الجبل للنزول، رأي أيضًا في الجنرال توفيق. يقول مزراق : "توفيق رجل هادئ يحب الاستماع، متواضع ولم أجد فيه الصفات التي يتحدثون عنها، لكنه غامض أيضا ويخفي وراء عينيه أشياء".

سيفي: "الهالة" صنعها مقربوه لقضاء مصالحهم

ويبدو مقداد سيفي، رئيس الحكومة سابقا، عند سؤاله عن الجنرال توفيق، متأثرًا من العبرة التي يمكن استخلاصها من مشهد الرحيل. "في كلمة لي ألقيتها يوم 9 يناير 1995، بمناسبة ندوة إعادة الهيكلة الصناعية، قلت إنّ المسؤولين سواء أولئك الذين يساهمون في صنع القرار أو أولئك الذين يشغلون مناصبهم لفترة معينة، عليهم أن يدركوا بأنّ قراراتهم والأخطاء المحتملة لها سيتحملها مواطن اليوم وأجيال المستقبل، لذا علينا أن نحرص على أن نترك للأجيال الصاعدة تراثًا وإرثًا سليمًا وواعدا".

ويقدم سيفي، الذي عاصر توفيق في أحلك ظرف مرت به الجزائر، قراءة لشخصيته فيقول: "لقد ذهب اليوم للتقاعد كحال كل الناس وسيحكم التاريخ على ما قدم للبلاد. أمّا على المستوى الإنساني فكان طيبا فعلا، ذكيا، لا يفرض رأيه على الآخرين".

ويعتبر رئيس حكومة الرئيس زروال أن "الهالة المصنوعة حول توفيق، نسجها مقربون منه لقضاء مصالحهم، فهناك من حاول ربط علاقة معه وتخويف الآخرين بأنه يعرف "الماجور" (تسمية تطلق على توفيق).

الخلاصة أنّ اللواء محمد مدين قدم الكثير لبلاده ووطنه الكبير، بمهنية عالية وعقيدة أمنية راسخة وبمقومات شخصية استثنائية ومؤثرة أهلته لقيادة جهاز هام وحساس في أحلك الظروف وسنوات الرخاء كذلك، مشكلة اللواء توفيق كنظرائه في هكذا مهام، يعملون بصمت ويرحلون بصمت ويتركون للتاريخ التصنيف والتوصيف والحكم، فقدرهم أن تكون قراراتهم وخطاهم بعيدة المدى، وقد لا تدركها بصائر معاصريهم بحكم إلمامهم الشامل غير المُخل بكل المعطيات على الأرض، وتحليلهم الاستراتيجي وتعاطيهم العميق مع المفهوم الشامل للأمن. فتحيّة إجلال وإكبار لهؤلاء الجنود المجندين لأمن أوطانهم وخدمة ثوابتها وصونها دون طقوس أو ضجيج أو مراسم.

قبل اللقاء: لا تذكروا محاسن موتاكم، بل محاسن أحيائكم قبل ذلك.

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك