أيّها الهدهد..!!

عائشة البلوشية
رنّ جرس الحصة في أحد أيام ثمانينيّات القرن الماضي، بمدرسة الغالية بنت ناصر الثانوية للبنات في ولاية عبري، وجلسنا نترقب دخول أستاذتنا الغالية "سهيلة غندور"، معلمة حازمة لا نراها تضحك إلا نادرًا، وكأنّها نذرت ألا تضحك مطلقا، كأنّي بها قد حملت هم شعب فلسطين فوق ظهرها، ومضت تسعى في الأرض طلبا للرزق الحلال، مؤدية رسالة تعليم لغة الضاد بكل حب، آملة في أن تعود إلى القدس تقبل تراب الأقصى وتسجد في باحاته، شاكرة حامدة وقد انتهى الأنين..

معلمة جعلت من اللغة العربية للست عشرة طالبة في الصف الثاني ثانوي العلمي عشقًا لا يضاهيه عشق، وكنت أتحرّق شوقا لحصّتها التي تمر وكأنّها دقيقة، كان لها أسلوب فريد في التدريس، تستثمر كل ثانية في الحصة الدراسية، لتغرس فينا شوقا للمزيد من العلم.. كانت حصة التعبير التي تجعلنا نخرج ما في حنايانا من ذائقة، معلمة غرست في قلبي أنّ التعبير ليس حبرًا على ورق، بل هو حالة روحانيّة فريدة، تجعلني أعيش الحرف فأتنفس كل كلمة أكتبها، وأغذي سطوري برحيق المعاني؛ طلبت أستاذتي - التي أحرص أن أبهرها بارتقائي وانتقائي- أن نكتب موضوعًا عن العسل، فانبرينا نخرج بنات أفكارنا، ونزفها عرائس فوق صفحة دفتر التعبير، ثمّ سلمناها دفاترنا عندما أعلنت عن انتهاء الوقت..
بكل صبر الكون كنا ننتظر النتائج، عندما كانت تعلنها في اليوم التالي، وكنت أرجو أن أكون قد حققت العلامة الأعلى - كما هو حال زميلاتي- فقد كنا نتنافس لنريها أننا نستحق العلامة 7 من 8، فقد كانت تقول إنّها لا تعطي العلامات الثماني إلا إذا بهرها الأداء من جميع الزوايا، فبدأت بالإطراء عمّا وجدته من أقلامنا، ثمّ أخذت تمدح موضوعين حققا معها أعلى العلامات، وأنّها كانت تقرأ بانبهار سطورهما، وكنت وأنا انتظار إعلان الأسماء أجد أنّ الوقت قد تحوّل إلى سلحفاة ناهزت المائة عام ونيف، وكنت أسر القول بأنني على استعداد لدفع هذه السلحفاة دفعًا ﻷشنف أذناي بسماع الأسماء، وقالت إنّ الموضوع الذي حقق العلامات الثماني كاملة عن جدارة واستحقاق هو موضوع "منى الوائلي"، يأتي بعدها بأقل من علامة موضوع "عائشة البلوشي"، فحلّقت فراشات الفرح أمام عيني، ولكنّها خفتت قليلا ﻷنّ صديقتي حصلت على أعلى علامة، وعندما قرأت موضوعها، وجدتها قد استحضرت أبيات شعر بليغة ذكرها المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك الذي كنا نتداول أشرطته تلك الأيام، فقد كان أسلوبه البلاغي رحمه الله يروق لنا، ولغته العربية الواضحة وحماسه الخطابي يشدنا، ففترة المراهقة تشكل الكثير من خيوط حيواتنا، وأشكر الله أنّ حبنا توجّه لكل ما يمت للغة العربية بصلة، وكان ذكاء منها أن تستدل بالكثير من الآيات وأبيات الشعر والشرح عن النحل وشرابه، فاستحقت العلامة كاملة، كما أنّها ذكرت للأستاذة سهيلة ذلك، فقالت لها إنّها لم تستمع لذلك الشيخ، ولكن لا ضير في الاستشهاد ببعض مما ساقه في خطبته من أدلة قرآنية وشعرية، وأسلوب غير مباشر من معلمتنا لدفعنا للاطلاع والقراءة أكثر فأكثر..
كنت أتابع وقلبي يتمزّق العدوان الصارخ على المسجد الأقصى يوم أمس الإثنين سبتمبر 2015م، وأشاهد قنابل الصوت والغاز تلقى على أهل القدس، دون مراعاة لشيخ مسن أو امرأة، وكيف قاموا بإخلاء ساحات المسجد ليقوموا بإدخال المستوطنين اليهود ليؤدوا صلواتهم التلمودية للسنة اليهودية الجديدة، وقلبي يعتصر على هذه الجراح التي تثخن جسد لغة الضاد في كل مكان، وأدعو الله أن يفرج عن أمّة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصوت فيروز في أذني: "عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد، يا ليلة الإسراء، يا درب من مرّوا إلى السماء.." وبغصة خانقة أغلقت التلفاز...
وصلتني بعد حين رسالة جميلة من والدي الغالي - رزقني الله بره- ففتحت تطبيق الواتس آب وكانت الرسالة عبارة عن قصة - قد تكون من الإسرائيليات- عن سبب تسمية مدينة "نابلس" في فلسطين بهذا الاسم، وكنت أقرأ ذلك الحوار بين الغراب الأعمى وسيدنا سليمان عليه السلام، وحواره عليه السلام مع الأفعى "لس" التي وجدها في البئر، وكيف أمر جنده بقتلها واقتلع نابيها وغرسهما عند مدخل تلك القرية، لتعرف بعدها بـ "ناب لس" إلى يومنا هذا، أخذتني الذاكرة إلى تلك الإنسانة السماوية بصدقها وإخلاصها، تذكرت أستاذتي الغالية المولودة في نابلس -أ.سهيلة-، والتي جعلتني أحب نابلس ﻷنّها جاءت منها، فرفعت رأسي وأنا أخاطب هدهد سيدنا سليمان عليه السلام، راجية إيّاه: أيّها الهدهد، حلق في سماء بلادنا العربيّة التي تتلاشى فيها الحدود، وأقرىء سلامي وأوصل شكري وامتناني لأستاذتي الرائعة في أي أرض هي عليها، وأبلغها بأنني أدعو من عميق قلبي أن يحفظها ويرزقها ويرزقنا سجدة في أقصانا المكلوم..
وفي هذه العشر المباركات أتوجه بعظيم التحيّة لكل معلم أخلص بكل معاني المحبة، ليوصل لطلابه العلم ويبنيهم عقلا وفكرًا وقلبا، وأن يكون بحبه لمادته وعمله قد ترك بصمة جميلة في قلوب طلابه لا تنتهي مدى الحياة، تجعلهم يذكرونه ويشكرونه على الدوام، ﻷنّها لعمري لذة أجدها في قلبي عندما أستحضر متعة الدراسة على يدى معلمتي، التي أكاد استحضر صورتها كلما شرعت في كتابة أي تقرير أو رسالة أو مقال وأدعو لها بالبركة والحفظ...

توقيع: "ﻷجلك يا مدينة الصلاة أصلي.. ﻷجلك يا بهية المساكن أصلي يا قدس.. يا مدينة الصلاة".


تعليق عبر الفيس بوك