العنف الكلاسيكي

أسماء القطيبي

في صِرَاع الإنسان الأوَّل من أجل الحفاظ على حياته، كان يُمارس العنف ضد الحيوانات المفترسة، وأحيانا ضد بني جنسه، بطريقة مباشرة تتمثَّل في الإيذاء الجسدي، ولأسباب واضحة كالتسابق في الحصول على الطعام، والدفاع عن النفس والجماعة. أما في المجتمعات الحديثة، فقد انتفتْ تلك الأسباب، لكن ظهرتْ أسباب أخرى أكثر تعقيدا، دلَّلت على أن العنف والعدائية سلوكان متأصلان في الإنسان، وإن ارتديا لباسا أكثر زخرفة وتلونا. وعليه، فإنَّ كثيرًا من الباحثين اليوم يدحضون تلك المقولات التي تعد الإنسان القديم كائنا همجيا عنيفًا، ويؤكدون أنَّ الإنسان اليوم ليس بأقل عنفا، ولا أكثر سلمية، وأنَّ التغيير الحاصل هو التغيير في طريقة التعبير عن العنف -وأتحدث هنا عن العنف على مستوى الأفراد وليس الجماعات- حيث تحوَّل العنف بطريقة ملاحظة من الإيذاء الجسدي إلى الإيذاء النفسي والعاطفي.

... أحد النماذج الشائعة في العنف الكلاسيكي الحديث: ذلك النوع من الأشخاص الذين يستجدون الإهتمام والتعاطف من الآخرين؛ حيث يستمتعُ أفراده بلعب دور الضحية. وتجدُ الواحد منهم يشتكي دائما من أنه يتعرَّض للظلم من قبل الجميع، وأنَّ سوءَ الطالع أمرٌ يُلازمه على الدوام، ويميل إلى الدراما في وصف سوء أحواله، بل إنه يُبالغ في وصف مرض ألمَ به فيجعله أشد الأمراض وأكثرها فتكا. هذا النوع من الناس الذي نصفه عادة بالسلبية يمارس عُنفا وإيذاء نفسيًّا على المقربين منه؛ لأنه يطلب التعاطف معه في كل الأحوال، ومهما كانت الظروف. وهذا بالطبع ينتج علاقة غير متكافئة لكون أحد الأفراد يستحوذ على نصيب الأسد من الاهتمام، بينما يُهمِّش الآخرين الذين ليسوا سوى ضُمَّادة لترقيع هفواته، وتعزيز نرجسيته. وهو مُؤذٍ أيضا من ناحية أنَّ هذا الشخص يجعل الشعور بالذنب يلازم الآخرين لكونهم غير قادرين على إسعاده ومساعدته في الحصول على الحياة التي يريدها. هذا الشعور يولِّد حالة من الإحباط، والإحباط هنا ليس إلا عنفا مغلفا يقدمه الآخر لك.

هذا الصنف من الأشخاص لا يريد أن تقدم له الحلول، أو أن تساعده على تجاوز العقبات والتأقلم معها؛ لأنه يستمتع بهذا الأمر ويعتبره انتصارا له، بل إنَّ البعض قد يصل به الأمر إلى تصنُّع المرض وتوهمه، واختلاق القصص للاستحواذ على الاهتمام الدائم بما يُشبه سلوكَ الأطفال في إجبار الآخرين على اللعب معهم بغضِّ النظر عن انشغالهم بما هو أولى.. إنَّه يعتقد أنَّه أحق بالاهتمام من أي شخص آخر؛ لذا فهو نادرًا ما يهتم بالآخرين ويلاحظ التغييرات التي تطرأ على حياتهم؛ ولهذا السبب فإنَّه لا يحظى إلا بعدد قليل من الأصدقاء طويلي البال.

ويُرجع فرويد أسباب ميل الناس إلى مثل هذه السلوكيات إلى الكَبْت الجنسي، وعُقد الطفولة والتنشئة التي يكتسبها الشخص من والديه، بينما يفسرها فوستو إنطونيني بأنها ردة فعل بسبب الفشل في تحقيق الذات، وكلا التفسيرين يجعلني متعاطفة مع هذا النوع من الناس؛ كوني أستطيع فهم أنَّ الأمر مُتعلق بالشخص نفسه وليس بي أنا كطرف آخر في العلاقة، والوعي بهذه الفكرة لوحده ينأى بي عن التأثر بالعدوانية والعنف التي ينتجها. كما أنَّني أتعاطف مع هؤلاء الأفراد كون هذا السلوك غالبا غير واعٍ؛ حيث يتدخل فيه ماضي الشخص، وتجاربه في الحياة، وأمور كثيرة معقدة.

... إنَّنا لا نستطيع تجنُّب مثل هؤلاء الناس في حياتنا، لكن نستطيع حماية أنفسنا من تأثيرهم السلبي عن طريق فهم الأسباب التي جعلتهم يؤذوننا -بقصد أو دون قصد- حيث إنَّ هؤلاء الأشخاص غالبا ضحايا أسرة أو مجتمع. ومثل هذا النموذج من الناس هناك نماذج أخرى نُصادفها في حياتنا تتطلَّب التعامل معها بوعي أيضا كسلوك التنمُّر والميل لفرض السلطة، والإغراق في الحب. فالفهم يجنبنا ردات الفعل العنيفة، ويحمينا من التأثير السلبي الذين ينتجه التعامل مع الأشخاص، خاصة إذا علمنا أنَّنا لا نخلو من عقد قد لا نلاحظ تأثيرها في شخصياتنا، لكن يستطيع الآخرون تمييزها، وأنَّ التخلص من سلوك متأصل يتطلب جهدا كبيرا، ومساندة ومساعدة متخصصة.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك