مارجيت كين و"العيون الكبيرة"

عهود الأشخرية

"غارقا في اللحظة تتأمل العالم وتزدريه، وتعيد إنتاج الهامش والمُهل، كما تُريد أن يكون للخسارة معنى الحقيقة"/ هذا ما يقوله الشاعر زاهر الغافري في نطاق أن نجمع خساراتنا، تلك الخسارة التي تُشكّل المعنى في النهاية والتي حتما سنتعلم منها الدرس الذي لا يمكن أن ننساه طوال حياتنا؛ وإلا سنكون مغمورين دائمًا بماء السراب، الذي يبدو ماءً من بعيد، وسرابا حين نبدأ نقترب منه. إن خسارتنا في الحقيقة تُشكل جزءًا من وجودنا هنا وتُشكل جزءًا من شخصياتنا، من جهة أخرى أحب أن أطلق عليها اسم التجربة في الخط غير المستقيم؛ إننا نتعثر دائما كي نستطيع المضي بشكل أفضل وبوعي أكبر.

في تاريخ الفن هناك قصص غريبة تحصل، لكن قصة "العيون الكبيرة" هي من أغرب القصص التي يجب أن نتعلم منها، وهنا أعني بالغرابة شيئا خارجًا عن المعتاد. الرسامة الأمريكية مارجريت كين تهرب من حياتها الأولى التي تظهر فيها زوجة وأمًا إلى حياة أكثر انفتاحًا وتدفقًا وهي تأمل أن تكون بخير حينما تأخذ طفلتها ولوحاتها ثم تباشر بالبدء من جديد. فماذا يمكن أن تفعل امرأة تعيش في مجتمع لا يؤمن بقدرة المرأة على الإبداع؛ ففي نهاية الخمسينيات لم يكن يُعترف بحقوق المرأة المبدعة ولا يُنظر لها. فما هي قصة مارجريت كين التي ظنت أنها هربت من الظلام إلى الضوء؟

انطلاقا من مقولة المؤلف الفرنسي أندريه موروا "يهدف الفن إلى خلق عالم أكثر إنسانية مواز للعالم الحقيقي" لا بدّ أن تبدأ قصة "العيون الكبيرة"، ولدت مارجريت كين عام 1927 متمسكة بعادة أن تحدّق في عيون كل من حولها واستمرت في ذلك ثم اكتشفت أنها تحب الرسم، بدأت بذلك حين أمسكت الريشة في الكنيسة ورسمت ملائكة بأعين كثيرة، لقد كانت تعبّر عن روحها بهذه الطريقة، ثم عاشت حياتها برسم لوحات لأطفال بعيون كبيرة، لوحات مليئة بالسوداوية التي كان يشكلها اليأس والتشرد واليتم، حين تشكل لدى كين عدد لا بأس به من اللوحات بدأت ببيعها في الشوارع بثمن بسيط جدًا، بالاضافة إلى أنّها كانت تظن أنّ من يشتري منها لوحةً فقط لأنه يشفق على حالتها ولم تعلم في ذلك الوقت أنّ لوحاتها يمكن أن تُشكل طريقة خاصة ومميزة في الفن، طريقة تعبيرية إن صح الوصف.

لم تكن كين مؤمنة بقدرتها، لأنّ الإيمان دائمًا يتأثر بالبيئة المحيطة حتى وإن كان مصدره القلب أو دواخل الإنسان، وكانت تظهر في الشوارع بحال بائس وملابس متهالكة ووجه منهك -همها الوحيد فقط أن تستطيع أن تعيل طفلتها الوحيدة-، ومن هذه الشوارع نفسها التقت بالشخص المحوري في حياتها وهو والتر كين دخلت معه في قصة حب تزوجته في بدايتها، والتر كان شخصية جيدة في حياة مارجريت على الأقل في بداية زواجهم، ثم أقنعها أن المرأة لا تبيع بهذه الطريقة؛ إنما عليها أن توكل المهمة لزوجها، فهو المتكفل باحضار المال والشهرة لها ولم يكن في الأساس لديها خيار إلا أن تقتنع بكلام زوجها لأنها رأته محبا ومهتما بموهبتها/ صادقا ونقيا إلى أبعد الحدود.

كانت مارجريت توقع على لوحاتها (كين)، هي مؤمنة تماما أن هذه العيون تعكس روحها ومؤمنة أيضا أن لوحاتها تمثلها. بدأ والتر بالترويج للوحاتها في المعارض والحانات والمقاهي، فحققت نجاحًا كبيرًا وأدهشت من يراها، وبسبب ذلك النجاح أراد والتر أن ينسب اللوحات له، فمن لا يريد كل هذا النجاح الذي حققته لوحات "العيون الكبيرة" الموقعة باسم كين؟!

يوما بعد يوم صارت لوحات "العيون الكبيرة" معروفة وعليها قابلية كبيرة، وحققت ثروة هائلة حتى اكتشفت مارجريت أنّ زوجها والتر يكذب على الجمهور بأنه من رسم تلك اللوحات، أحست بأنّه يحاول أن يسرق منها روحها والتي اختلطت مع تلك اللوحات، فدخلت معه في حوار بأنّها غير راضية عما يفعله لكنه أقنعها وصارت مارجريت مغفلة حين وافقت بنفسها عن تلك السرقة.

وحين وصلت لوحات "العيون الواسعة" لصاحبها الافتراضي والتر إلى ذروة الشهرة طُلب منه المشاركة في مهرجان فني كبير، فطلب من مارجريت أن ترسم لوحة مثل قيمة الموناليزا ذلك أن كل فنان يجب أن تكون عنده لوحة تطغى على كل لوحاته، لوحة تُسمى باسم هذا الفنان.

رسمت مارجريت لوحة عملاقة لجميع الأطفال المشردين في لوحاتها الصغيرة لكن تم مواجهتها بالرفض وقوبلت بانتقادات لاذعة من قبل الجمهور منها أن هذه اللوحة لا ترقى إلى مستوى الفن !

هنا فقد والتر صوابه وحاول إحراق المنزل مع زوجته الفنانة وطفلتها ولوحاتها، لكنها نجت من ذلك وهربت إلى هاواي مع طفلتها.

هاواي هي نقطة التغيير في حياة كين الحقيقية حيث قررت أخيرًا أن تستعيد حق لوحاتها من والتر، فصعدت تصريحات كين إلى القضاء. وحان أخيرًا اليوم المهم في حياتها، كان والتر يبدو واثقا جدا، وكين متمسكة بالأمل والإيمان بموهبتها، لذا لم يصل القاضي إلى حل إلا أن يرسم كل منهما لوحة تمثل فن العيون الكبيرة. نجحت مارجريت في ذلك خلال أقل من ساعة بينما ظلّت ورقة والتر بيضاء تمامًا، فحكم القاضي لصالح الفنانة الضعيفة سابقا القوية بعد تلك الجلسة في المحكمة. وبقيت تلك اللوحات تشكل شيئا مهما في حياة مارجريت وابنتها والكثير من الناس.. تقول مارجريت "اللوحات كأبنائي والعيون شبابيك القلب".

اكتشفت هذه القصة حين شاهدت الفيلم (big eyes) ، وبدأت أبحث عن تفاصيل قصة هذه الفنانة لأنّ لوحاتها أثارت فضولي، هذا الفيلم للمخرج تيم برتون وقامت بدور مارجريت آيمي آدمز، وفي دور والتر كريستوف فالتزوداني.

إذن فالسينما هي طريق للمعرفة، مهما كان نوع هذه المعرفة فإنّها تدفعنا إلى النبش في التفاصيل مثل تفاصيل العيون الكبيرة.

Ohood-Alashkhar@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك